في سورية وجه آخر للمعاناة

في سورية وجه آخر للمعاناة

17 سبتمبر 2023
+ الخط -

كم بتنا نشتاق اليوم إلى عشّ بيتنا القديم، وإلى أيام الطفولة والصبا، وأحلامنا الصغيرة، والحارة وأبنائها، إلى جانب الأهل والأصدقاء والمعارف برغم العوز والفاقة والفقر الذي ما زال يفتك بنا كلنا ـ نعم كلنا ـ وإن كنا نعيش في بحبوحة، في حينها، نحن أبناء سورية، أما اليوم فإنّ أغلب أهلنا هناك يعيش الفاقة. وفي أماكن اللجوء، التي وصل إليها أبناء سورية، فقد تغير الحال كثيراً، سواء أكان ذلك لجهة الذين لجأوا إلى دول أوروبا، (بلاد النعيم)، أو إلى الولايات المتحدة الأميركية، كندا، وفي العالم العربي الذي هو الآخر استقطب أعداداً كبيرة منهم.

بعد هذا الذي جرى، ويجري اليوم على الأرض السورية، ماذا يمكن أن نقول عن مصير مئات الآلاف، بل الملايين الذين هجّروا عنوةً، ومنهم من تمكن من الفرار من جلادي النظام والأسى الذي يعانون، والفقر المدقع الذي لمسوه بأيديهم، وندرة من فضّل البقاء في الوطن، ليس حبّاَ فيه وإنما بسبب الخوف والرعب من المجهول؟

إنَّ ندرة توافر السيولة المادية بين أيدي الناس وقفت حجر عثرة في طرق أبواب الاغتراب، والهروب من وجه النظام الطاغية وزبانيته المستفيدة، جهاراً من جيب المواطن "المعتّر"، وما زالوا، وإلى اليوم يعبثون بخيرات البلد التي اغتنموها وعاثوا فيه فساداً، وها هي النتيجة التي وصلوا إليها بدءاً من غلاء المعيشة، غير الطبيعي، بحيث وصل سعر الدولار مقابل الليرة السورية إلى سقف الـ14200 ليرة، في حين أنّ سعر الدولار لم يكن يتخطى عتبة الـ50 ليرة خلال الفترة التي سبقت الأزمة التي عاشها ابنها، إلى الانهيار الاقتصادي الكلي، والعسف بحقوق المواطن.

بعد هذا الذي جرى، ويجري اليوم على الأرض السورية، ماذا يمكن أن نقول عن مصير مئات الآلاف، بل الملايين الذين هجّروا عنوةً

الصورة المحزنة التي ينقلها لنا أهلنا وأخوتنا في الداخل السوري، فيها الكثير من المعاناة والأسى، ولكن ما العمل، فقد جبلوا عليها وأصبحت جزءاً من معيشتهم، وحتى أحلامهم!

ولم يكن المواطن في سورية، في يوم ما يحلم، ولو مجرد حلم، أن يصل به الحال إلى هذه الصورة التي بات يعيشها اليوم، ويعرفها الجميع سواءٌ في الداخل أم في الخارج، وسواءٌ أكانوا مهاجرين أم متشبّثين فيه. إنّهم صاروا جزءاً من واقع أليم هشّ، وها هم يتعايشون فيه برغم أنوفهم، وأغلبهم يفضّل الفرار بنفسه ولكن؟

تظل هناك حواجز من الصعب تجاوزها، وبصورة خاصة من أمثال الكثير بالنسبة للمتزوجين منهم الذين لديهم أسر كبيرة، وحتى المسؤولين عن الأسر الصغيرة، فإلى من يترك هؤلاء أطفالهم وزوجاتهم والفرار من جحيم الفاقة والعوز الذي يعانون، والمطاليب اليومية التي لا تنتهي؟

أمثال هؤلاء، وغيرهم كثير فضّل العيش إلى جانب أسرته، مفضلاً الموت البطيء على السفر، والهجرة إلى بلاد بعيدة يجهلها لكثير من الأسباب، ومن أهمها وفي مقدمتها، من من هؤلاء يملك القدرة على تركهم للحاق بركب الهجرة؟ وكيف سيكون مصيرهم من بعده؟ وكيف يعيشون؟ ومن يلبي طلباتهم؟ ومن يرأف بحالهم؟ ومن هو المسؤول عنهم في حال غيابه؟ وكيف سيتدبرون أمورهم؟

الأسئلة كثيرة ومرعبة تبحث عن حلول، وصارت بلا شك تهم كل مواطن سوري، ولكن؟

هذا ما دفع ربَّ الأسرة الفقيرة، على ــ وجه التحقيق ــ على البقاء في بلده والعيش في خذلان، والقبول بالواقع والالتزام بأيّ عمل مهما كان دنيئاً، وبأجر بسيط لأجل خاطر عيون أطفاله، وهذا ما يحدث اليوم في سورية التي تلاشت!

سورية التي لم نعد نعرفها، ورغم كل هذا الدمار والخراب والفقر الأسود، والعيش الذليل فإن المواطن السوري تشبّث بأرضه، رغما عنه، وليس عن طيب خاطر بل إنه رضي بالمقسوم.

أنقل هذا الكلام من رحم المعاناة التي يُعاني منها ابن سورية، الذي تحمّل وعلى مضض، هذا الواقع المرير منذ عشرات السنين في ظل حاكم طاغية لا يعرف قلبه الرحمة، وكل همّه قهر المواطن السوري وعزله، وتركه على الرف وإذلاله!

هذا لبّ المعاناة، وما تزال تزداد يوماً بعد آخر.. وعودة الساحات، في أغلب المدن السورية إلى التظاهر في ظل الأوضاع الاقتصادية المرعبة. فإلى متى؟

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.

مدونات أخرى