خاشقجي... الاغتيال الصادم!

خاشقجي... الاغتيال الصادم!

09 نوفمبر 2018
+ الخط -
لم تعد قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي خافية على أحد، بل إنها أخذت مساحة غير معلنة في الصحافة العالمية ووسائل الإعلام المختلفة، فضلاً عن مواقع التواصل الاجتماعي. وما كتب عنه يكفي لأن يتسع لمجلدات، وكانت "القشّة التي قصمت ظهر البعير"، بل كانت بمثابة المطرقة التي هدمت ما بناه نجل العاهل السعودي وولي عهده، من ترّهات مزخرفة مهولة ليكسب أكبر شريحة من جماهيريته ونفوذه، التي كما كان يظنها، تجاوزت الآفاق وأطنب!

إنّ استدراج الصحافي جمال خاشقجي إلى بهو قنصلية بلاده في إسطنبول، بعدما تم تحديد موعد مسبق له، من أجل استكمال وثيقة عقد قرانه بزوجة ثانية من أصول تركية، ما يعني هذا من دفعه لدخولها، وبكل ثقة، إلا أنه لم يكن يعلم أنها بداية النهاية بالنسبة له، وفوجئ العالم بعدها باختفائه، بالإقدام على خنقه وتقطيع جثته، والتخلص منه بإذابة جثمانه، أو بتجزئته ورميه في مكان آمن بعيداً عن إثارة أي شبهات تدلّ عليه، هكذا، وبكل بساطة!

بصراحة أكثر، ما حدث للزميل خاشقجي، عدّه كثيرون جريمة العصر التي لم يعرف العالم مثيلاً لها من ذي قبل.. فقد أدانها القاصي والداني نتيجة بشاعتها. جريمة خطط لها أذناب ومنتفعو السلطة السعودية، ونفّذت بأوامر من رأس الهرم... وها هو اليوم محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، يحاول جاهداً طمس معالمها بإبعاد الشبهات عنه، محاولاً رسم الصورة الجميلة عن بلاده، وإيهام الناس بوداعته وبراءته وبساطته، وهو يضمر عكس ما يظهر وهذا ما أظهرته عدسات الصحافيين، فضلاً عن نظراته وحركة يديه وملامح وجهه وشفتيه، ونبرات صوته من خلال الإدلاء بتصريحاته أثناء إقامة مؤتمر الاستثمار الذي عقد مؤخراً في العاصمة الرياض.

لقد صنع محمد بن سلمان عدداً من الأزمات الرئيسية سواء داخل المملكة أو خارجها، ومثالها: الحرب في اليمن، التي أودت بحياة عشرات الآلاف مـن الأشخاص، وقتلت عدداً لا يحصى من المدنيين، بمن فيهم الأطفال، والإقدام على تقييد نشطاء المجتمع المدني، إضافة إلى سجن المئات مـن أفراد العائلة المالكة وغيرهم من الأشخاص المتنفّذين، في مقابل دفع مبالغ ضخمة لإطلاق سراحهم، فضلاً عن طرد منافسيه وذويه المقرّبين بمن فيهم ولي العهد السابق محمد بن نايف، واختطاف رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري ونفيه كذلك، ناهيك بفرض حصار حقود وكامل على دولة قطر المجاورة، وهي شريك أميركي مهم آخر، وكذلك اختلاق الأزمة مع كندا بعد انزعاجه من تغريدتين انتقاديتين معتدلتين لوزيرة الخارجية الكندية، خفّض فجأة العلاقات الدبلوماسية مع أوتاوا وأخرج 7000 طالب سعودي من الجامعات الكندية.

إنّ مقتل الصحافي المتميّز جمال خاشقجي، صاحب العمود الحر في صحيفة واشنطن بوست الأميركية، سبق أن تخلصوا منه بمجرد دخوله مبنى القنصلية السعودية الذي جاءها طواعية، فكانت زيارته تلك هي الأولى والأخيرة، وأن المقصلة التي أعدوها له أسهمت في إنهاء حياة ألمع صحافي مثابر عرفه زملاء المهنة بالنباهة، ولطف المعشر، ولم يتعد يوماً على أحد، بل كان ميّالاً للخير وحب الناس، ولم يكن معارضاً بالمعنى الحقيقي للكلمة بل كان مجرد ناصح، وكان الاعتداء الذي جوبه به من ثمانية عشر جانياً خبيراً وطئت أقدامهم أرض القنصلية في ليلة غاب عنها قمرها وأظهر المجرمين وراء القضبان، قد صدم العالم في كل مكان.
وبعدما أنهى المجرمون الاحتفال بقتل وتقطيع جريمتهم النكراء، ظلوا طلقاء يسعون للخلاص من الجسد الطاهر الذي لم يعرف مصيره، حتى اللحظة، رغم البحث المستمر، ومن خلال عناصر خبيرة، فالبحث ما زال يلازم الرفات الضائع، الذي يؤكد أهل الخبرة أنهم تخلصوا منه بعدة طرق، إما بإذابته بالأسيد، أو بتوزيعه على عدد من الحقائب كانت بحوزة المجرمين، أو بإلقائه في أحد الأماكن بعيداً عن الأنظار، ويصرّون في تصريحاتهم على أن الزميل خاشقجي خرج من باب القنصلية، كما دخل منها، ويعيدون الكرّة باعتراف الجهة الرسمية على أنّ الجثة ما زالت مفقودة لا أحد يعرف عنها شيئاً!
إن أدلة البحث الجنائي التركية تدرك أهمية ذلك، وتحث الخطى بحثاً عن كشف جثّة الصحافي سليل الأصالة، الذي يبدو من خلال كتاباته ورؤيته الصحافية، أنه ظل يشيد بالسلطة وبالقيادة السعودية التي لم تتوان في التخلص منه أخيراً.

لم يعد أحد يشك، بعد كل الذي جرى بأن الصحافي جمال خاشقجي ما زال على قيد الحياة، فاعترافات القتل ذكرتها السلطات السعودية التي لم تبدِ أي تعاون مع القضاء التركي، وهذا ما حصل على ضوء زيارة النائب العام السعودي لتركيا... والأنكى من ذلك كله تعدد الروايات السعودية أكثر من مرة حتى رست على الاعتراف بجريمة القتل وأن ألقت بالمسؤولية على فريق من 18 فرداً، والملف ما زال مفتوحاً ينتظر إجابات من الطرف السعودي، حيث يمسك الأتراك بأجزاء عديدة من الحقائق المحيطة بالقضية يلقون بها ككرات اللهب كل حين على العباءة السعودية، بينما يستخدم الحليف الأميركي دونالد ترامب قميص خاشقجي لتركيع الرياض التي تسبح اليوم خاشعة في أزمة دماء الصحافي القتيل.
إنّ التخلص من جثمان الصحافي المخضرم جمال خاشقجي، وبهذه البساطة، بعد تعرضه إلى اغتيال صادم، ونشر جسده بمنشار عظم، وبحضور فريق متكامل من المختصين وأهل الخبرة الذين حضروا على متن طائرتين من القاهرة والرياض هبطتا في مطار إسطنبول، ومحاولة إبعاد الشبهات عن رأس الهرم السعودي الذي هو من أعطى الأوامر بقتله والخلاص منه بهذه الحماقة، فيه من الفعل الإجرامي المخزي والبائس والمؤلم ما يكفي!

هذه النهاية المحزنة التي ضمّختها يدُ الجُناة بقتل الصحافي جمال خاشقجي أرضت، وللأسف، ضمائر هؤلاء الأشرار الذين أرسلوا للقصاص من صحافي لامع ونزيه، وفي وضح النهار، وعلى أرض قنصلية بلاده، ما يبعث على الريبة والاستغراب والخوف مستقبلاً من مراجعة أي مواطن سعودي لأي سفارة أو قنصلية عائدة لبلاده خارج أسوار المملكة، بعد الفعل الشنيع الذي أدى إلى اغتيال الصحافي جمال خاشقجي!

لا شك بأنّ الزمن آجلاً أم عاجلاً سيكشف عن قتلة الصحافي جمال خاشقجي، ولم يعرف العالم، وإلى اليوم، ما هو مصير جثته؟ ومن الذي أعطى الأوامر بتنفيذ هذه الجريمة التي يندى لها الجبين؟ الأيام القادمة ستظهر للعالم زيف السعوديين في معرفة ما حدث للزميل خاشقجي الذي تخلصوا منه بعيداً عن أي وازع ديني أو أخلاقي.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.