عندما تتحول المضافات إلى أوتيلات

عندما تتحول المضافات إلى أوتيلات

29 نوفمبر 2018
+ الخط -
في عصر ما قبل التلفزيون شهدتْ مدينة إدلب مبارزة غير مخطط لها بين المضافات، وأصبح كل آغا، أو كبير عائلة، يبث بين الناس نوعا من الدعاية لمضافته، ويشعر بالغبن وبالتآمر عندما ينخفض منسوب الزوار، ثم ينطلق ليبحث عن السبب.

في النهار، بعدما يشتري صاحبُ المضافة خضاره وفواكهه ولحومه وحلوياته من الساحة التحتانية، يرسلها مع أحد أعوانه إلى البيت، ثم يقبل دعوة أحد أصحابه من أهل الدكاكين، على كأس شاي خمير، أو أكرك عجم، ويجلس هو ومجموعة من الجيران، حول طاولة واطئة يتوسطها أبريق الشاي والكؤوس، ويبدأون بتبادل الأحاديث التي تتناول الأحوال المعاشية والعامة للناس (عدا الأحوال السياسية بالطبع فهي ليست ضمن اهتماماتهم)، ويأتي السؤال، بعدئذ، عن المضافة، فيقول إنه عاتب على الشباب الموجودين الذين لا يزورونه وهم يعلمون كم هو يعزهم ويقدرهم ويحب مجالستهم.. ومن قبيل الغمز واللمز يقول:

- إلا إذا كانوا يذهبون إلى مضافة (فلان آغا)، أو مضافة (علان أفندي).. في هذه الحالة لا يبقى لنا أي كلام، والرِجْل مَطْرَحْ ما بتحبّ بتدبّ.

فيرد عليه أحدهم مجاملاً:
- لا والله يا حاجي، الله يطول عمرك، القصة ليست بهاي الصورة، القصة أننا جماعة شغيلة، نستيقظ يومياً مِنْ مَسْكة الأبريق (أي منذ أن يحين وقت الوضوء لصلاة الفجر)، نصلي ونأتي إلى الشغل، وفي المساء عندما ننصرف يكون الواحد منا مطبوخاً مثل السِلْق بعد غلوة، ويا دوب الواحد يدعبل لقمتين ويشرب كباية شاي، ويصلي العشاء ويتسلل إلى الفراش وينام مثل القتيل.

يقول صاحب المضافة: والله أنا أعرف البير والغطا، الله يقويكم. لكن أنا لاحظت أن معظم الناس يرتادون مضافات أقاربهم، يا سيدي، قريبك، عمك، خالك، على رأسي، ولكن الذي يصير هذه الأيام أن المضافات تتحول، شيئاً فشيئاً، إلى أوتيلات. تعرفون السبب؟

يقول له أحدهم: أوتيلات؟ غريبة؟ وهل إدلب تحتاج أوتيلات؟ أصلاً إذا جاءك ضيف من غير بلد عيب عليك ألا تستقبله في بيتك، وتؤمّن له العشاء والنوم وكل شي على الأربع وعشرين قيراط..

يضحك صاحب المضافة ويقول: أنا أقصد بالأوتيلات شيئاً آخر.. في معظم المضافات اليوم ينام الرواد في مكان جلوسهم من شدة الملل، والمعابر بجنب المضافة يسمع الشخير عن بعد خمسن متر.

يقول أحدهم: والله غريبة، طيب أيش السبب؟
فيقول: السبب هو أن الرجال من أصحاب الذكاء والفطنة والمزاح والضحك يغيبون عن تلك المضافات، ويرتادها الناس المملون، الذين إذا سألت الواحد منهم سؤالاً تحتاج الإجابة عليه لكلمتين تراه يحكي لك قصة تجعلك تنام على الواقف. هل تعرفون لما سألوا العم أبا هَدَّاد (أيش تعشيت اليوم؟) أيش قال؟

ابتسم الحاضرون، لكونهم يعرفون أبا هداد وطريقته في الكلام. وسأله أحدهم: أيش قال؟
قال صاحب المضافة: قال إنه أول أمس، في السهرة، أي سيدي منلا أنت، سألته امرأته ماذا تريد أن أطبخ لك غداً؟ فقال لها، والله يا أم هداد يمكن أن تطبخي رز وفاصولية، ويمكن تقلي بطاطا، وممكن ناكل خبز وزيت ولبن، وفي أسوأ الأحوال نقلي كم بيضة دجاج.. وبعد تعداد الخيارات، يقول أبو هداد، إنهم توكلوا على الله وقرروا طبخ رز وفاصولية! وبعدها يحكي لك، بدون أي ضرورة لذلك، من أين اشترى الفاصولية، وكم دقيقة نقعوها في الماء، والرز، وكيف نقوه من الشوائب، ومن الزيوان، والدركليلة، ثم صولوه، ووضعوه في المصفاة لينضح ماءه.. شي نص ساعة زمان، وأنت تسمع، وفي الأخير تتوقف عن السمع لأنك تكون قد نمت..

للحديث بقية..

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...