الضحك في عالَم المضافات

الضحك في عالَم المضافات

28 نوفمبر 2018
+ الخط -
كان أستاذنا الكبير الراحل الأديب حسيب كيالي يقول إن السخرية تستوطن في المدن والبلدات والقرى ذات الطبيعة الزراعية الفلاحية، السبب، برأيه، أن الفلاح يعمل ما مجموعُه شهران في السنة، ويقعد عشرة أشهر متفرغاً للمزاح والضحك وصناعة المقالب..

وهذا الكلام منطقي، بلا شك، بدليل أن مدينة إدلب الصغيرة (وريفها) أفرزت عدداً لا يُستهان به من الشخصيات الزهراوية التي تُنسب إليها حكايات ومواقف طريفة ومضحكة..

تتألف مدينة إدلب من مجموعة عائلات عريقة، لكل عائلة زعيم، أو آغا، لديه فائض من المال يُمَكِّنُه من فتح مضافة، يأوي إليها الرجال بعد صلاة العشاء من كل يوم، وفي المضافة يقدم الآغا لضيوفه القهوة المرة والشاي، وأحياناً الكنافة أو القطايف، وإذا حضر ضيف غريب، من خارج البلدة، يمكن أن يقدم له عشاء دسماً، ثم يجلس الجميع، ضمن حلقة مستطيلة، ويبدأون بتبادل الأحاديث والأخبار، ويحكون النكات الواقعية عن شخصيات فكاهية معروفة..


ولكن بعض الناس يمكن أن يحيدوا عن الهدف الأساسي للمضافة، ويحولوها إلى مكان لاستعادة هموم النهار، كأن يحكي أحدهم عن فدان الفلاحة، فيقول إن أحد بغليه كان مريضاً اليومَ، فاضطر لتكدين البقرة مقابل البغل السليم، والبقرة، مثلما تعلمون يا أفاضل، أقصر قامة من البغل، ولذلك زاد الثقل عليها، وبركت على الأرض، وأصبحت رقبتها معقورة، وتعطل يوم الفلاحة كله..

فيرد عليه الثاني إنه شعر بالبرد أثناء الفلاحة، فجمع قليلاً من العشب اليابس (القْشاش)، وأشعل ناراً، ثم أخذ التْيَارَة (أي: حرثَ خَطَّ الفلاحة حتى آخر الحقل)، وجاء بالرَدّة (أي: حراثة العودة من آخر الحقل)، وإذا بالنار التي أشعلها قبل قليل قد أحرقت "دَيَّال" شجرة الزيتون (أي طرفها السفلي)، وبما أنه قبضاي وذكي وفهلوي، فقد هرع إلى الجب وراح يمتح قادوساً وراء قادوس ويركض ويفرغه على الدَيَّال، حتى انطفأت النار، ومن عظيم رحمة الله تعالى ولطفه أن في حوزته مقص شحالة، أخرجه من خُرْج الحمار وشرع يقصقص رؤوس الأغصان التي احترقت حتى أزال آثار الحريق بالكامل.

حكايتان أو ثلاث حكايات من هذا القبيل ويبدأ الملل يتسرب إلى نفوس الساهرين، لأن الجميع فلاحون، وهذه الأحاديث ليست جديدة عليهم، بل إنهم يعيشونها واقعياً، وفي المحصلة شرعوا يعملون على طريقة بيت الشعر الذي أبدعه أبو العلاء المعري (تثاءبَ زيدٌ إذ تثاءب خالدٌ، بعدوى..)، وبعد وصلة التثاؤب يبدأ الانصراف؛ مسعود في ظهر مبارك.. وبعد مضي سهرة أو سهرتين، ينتبه الجميع لأهمية الفكاهة والضحك.. فيقول قائل:

- اسمعوا شباب، القصة ما بدها زعل. قصص الفلاحة والزراعة والهم والنكد ما لها لزوم هنا. يا أخي اللي فينا مكفينا. يا الله احكوا لنا شي يسلينا ويخرجنا من هذه الحالة.
(وللحديث صلة).

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...