الدولة المتألهة والمواطن المستباح

الدولة المتألهة والمواطن المستباح

15 نوفمبر 2018
+ الخط -
نحن من نصنع المستبدين بالصمت، والقانون من أدوات الدولة في الهيمنة على المجتمع وإخضاعه، فعلى الرغم من أن الأمثل أن يُصنع القانون بالتوافق بين الدولة والمجتمع من خلال البرلمان، لكن الواقع أن الدولة تصنع من التشريعات ما يضمن سيطرتها ويحمي تسلطها على المجتمع، وهذا يفسر رفض العلمانيين مسألة تطبيق الشريعة؛ فهم يرون في دعوة الإسلاميين للشريعة حرمانا للشعب من حقه في المشاركة في وضع القوانين التي يرتضيها.

والدولة هي التي تحدد المشروع وغير المشروع، وتضع المعيار الذي يحتكم إليه الناس في التفرقة بين ما يمكن وما لا يصح، وهي التي تعرّف الجريمة وتضع حدودها؛ لذلك لا يمكن التعاطي مع الاتهام بالجريمة والإرهاب والمروق عن القانون باعتبارها أحكاما مطلقة ونهائية، إنما تخضع في جانب كبير منها لمصالح الدولة وتفضيلاتها وتحيزاتها، التي تكون في كثير من الأحيان غير منطقية وغير إنسانية.

حتى الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني -في أحيان كثيرة- هي مجرد أدوات تتمكن الدولة من خلالها من ضبط مسارات المعارضة وتنميطها والتحكم فيها.


وعلى الرغم من هيمنة الدولة وسطوتها عبر أدوات القانون والتقنين والتنميط، وعبر احتكار معيار الصواب والخطأ، يبقى المجتمع قادرا على استعادة زمام الفعل والمبادرة؛ عبر قدرته على إبداع مسارات جديدة للعمل وفرض معايير جديدة للصواب والخطأ، عرفية، وعقلية، ودينية، وابتكار أطر جديدة للعمل، ومساحات بِكر للحركة، تُمكن لمجموعات غير مدجنة مقاومة هيمنة الدولة واستبدادها، مستفيدة من إمكانات التكنولوجيا والاتصال، في تحدي هيمنة الدولة واستبدادها.

لكن في مقابل إمكانات المجتمع المطمورة على المقاومة وتصحيح المسار، تبقى الدولة قادرة على تكريس الهيمنة وترسيخ الاستبداد، خاصة مع ما يمكن تسميته بـ "تقنية الاستباحة" التي تستخدمها الدولة في إنتاج "المواطن المستباح".

الاستباحة (لغة): استباحَ الأمرَ: عدّه مباحًا غير ممنوع، أقدم عليه "استباح مالَ الآخرين: تملّكه واستولى عليه- استباح الجُنْد المدينة: استولوا عليها حربًا- استباح أرضه: نهبها، استولى عليها حربًا- استباح الحرمات: اعتدى عليها وانتهكها- استباح دمه: سفكه أو أجاز سفكه".

فالاستباحة من الناحية اللغوية، ليست مجرد الاعتداء على الغير وانتهاكه، إنما تقنين هذه الاستباحة وتبريرها أخلاقياً، وشرعنتها. ففي حالة الاستباحة لا يعترف المجرم بجريمته، إنما يدافع عنها باعتبارها الصواب، بل يبدأ في تسويقها لغيره باعتبارها الأفضل من الناحية الأخلاقية.

فسلب الحريات يقدم باعتباره الطريق الوحيد لتحقيق الاستقرار، وتجويع المجتمع يصبح هو الثمن الطبيعي لحماية الأمن القومي "المزعوم"، والتنكيل بالمعارضين يصبح هو الفضيلة الموصلة للقضاء على الإرهاب، وفي كل هذا تكون الدولة هي المحتكرة لتحديد مدلولات "الاستقرار، الأمن القومي، الإرهاب"، وهي المسؤولة عن تقنين هذه الاختيارات، وفرضها بالقوة، وتجريم من يعارضها ويناهضها.

للاستباحة بالمعنى المذكور صيغ كثيرة، يمكن تتبعها في المجتمعات المعاصرة؛ فالمواطن مستباح في السجون وفي التجنيد وفي أقسام الشرطة، وأمواله مستباحة بالضرائب غير المبررة على السلع والعقارات، ووقته مستباح في المصالح الحكومية وفي استخراج الأوراق وعلى الطرق انتظاراً لموكب مسؤول لا يمر، وفي مستشفيات ومدارس متهالكة، وتحت رحمة نظم إدارية وبيروقراطية من العصور الحجرية، تكرس الاستباحة وتنتج السلطوية والاستبداد، وغيرها من صور الاستباحة التي يمكن التقاطها من مشاهد حياتنا اليومية.