شوية نصاحة!

شوية نصاحة!

29 أكتوبر 2018
+ الخط -
من المحبط حقا أن تعلمنا الحياة بالوقت والخبرة أن جوهر الشيء وجودته وتدفقه قد لا تكون مزايا كافية للناس لتقديره والالتفات إليه ومعاملته بالحدب والصون الواجب، إذ حتى ولو قدروا وجوده ابتداءً، فإن التعود -قاتله الله- يعمل على تمويه المزايا وتحييدها وجعلها تبدو صفات عادية لا تستحق الاحتفاء.

شكت لي صديقة قديمة يوما في بدايات زواجنا، وكنا حقا صغيرات وبلا أية خبرة، من أنها تستهلك كل طاقتها الجسدية والنفسية في أعمال المنزل ورعاية الصغير طوال النهار، بهدف أن يأتي الزوج المرهق في عمله، فيجد كل شيء جاهزاً ومعداً لراحته، وتكون هي والولد أمامه في أبهى صورة بلا أي انشغال في مهمات مسائية.

تقول، وهي تضحك بتهكم، بأنها وجدت أن زوجها مع الوقت تعود على البيت النظيف، والطفل الهادئ المغتسل الرائع، والطعام المتنوع الجاهز على الطاولة، والمشتريات المتوفرة من خزين البيت وكل طلباته في أي وقت، فضلاً عن حل مشكلات الصيانة والفواتير والمشاوير النهارية الضرورية، وكذلك العلاقات العامة بأهله وبالجيران وبالأصدقاء، وأصبح يتعجب من أي شكوى صغيرة لها بخصوص الإجهاد أو التقصير في زيارة أهلها أو عدم وجود وقت لرؤية صديقاتها أو لتسوقها الشخصي.. فيرفع حاجبيه بعجب حقيقي متسائلا: وأنت يعني مشغولة ولاّ تعبانة من إيه مش فاهم؟!


تقول إنها كانت متأكدة من طيب طويته، فلم يكن من مرضى النفوس ممن يتعمدون الإساءة أو الاستغلال النفسي للشريكة، لكنها أدركت، بتكرار مثل هذا التعليق منه، أنه بالفعل لا يتصور حجم الجهد الذي تقوم به ويتعبها ويستهلك كل وقتها، ببساطة لأنه لا يراها وهي تؤديه. فبالرغم من أنه يلمس النتيجة أمامه يومياً، إلا أنه تعودها، فأصبح لا يراها، أو يتصور أنها بديهية طبيعية تحدث بلا مجهود!

وعندما تضررت من عدم إدراكه لجهدها، قررت -بخبث عشرينية بدأت تتعلم دروس الحياة- أن تؤخر الكثير من مهام التنظيف والترتيب ورعاية الصغير للمساء، حيث يستطيع الزوج أن يرى بأم عينيه أن الطعام لا يعد نفسه كل ظهيرة، وأن أرضيات المنزل لا تغتسل بنفسها طلبا للتطهر من الآثام مثلا! وأن الملاءات والشراشف والفوط لا تقفز في الغسالة من أجل جلسة الساونا الصباحية، ثم تترجل حتى الشرفة فتنتشر على حبال الغسيل لتأخذ حمامها الشمسي المعتاد! وأن الطفل لو ترك بملابس الليلة الفائتة ليلهو ويأكل ويحبو في طول البيت وعرضه طول النهار، فسيتغير لونه حتى ليعجز أبوه عن التعرف عليه عند عودته غالبا! بل وأصبحت تتعمد تأخير التسوق للبيت حتى عطلة نهاية الأسبوع، فتخرج معه لقضائه، لتجده يعود منهكا متكدرا من مهمة شاقة ومملة كان يظنها تتم بلا مجهود أو ربما تخيل أن المشتروات كانت تأتيهم راكبة!

كنت أضحك على حديثها كثيرا، فتردف بأن بعض الفوضى والتأخير نفعاها بأكثر مما فعلت المثالية والدقة ورَوْم الكمال، إذ أضحى الزوج يتعاطف مع "حوستها" الظاهرة في تدبير المنزل، وأصبح يقدر جدا اختفاء كومة الغسيل من فوق أريكة الغرفة، ويفرح برائحة كريم الأطفال المعطر الذي تفوح رائحته المنعشة من رقبة صغيره النظيف، وينظر لثمار الفاكهة الطازجة بتقدير سائلا عن سعرها وعمن باعها لها.

كثيرا ما أتذكر هذه القصة، فهي صالحة للتطبيق على غالبية علاقاتنا بالناس، وأقول لنفسي: فعلا، الوفرة عدو الامتنان، ولا يرفع قيمة السلعة مثل بعض الانقطاع.

لكن المؤسف حقا أن يعجز الواحد منا عن مثل هذا التناصح والمرونة مع طبائع الحياة لأن تربيته وشخصيته "الخايبة" قد درجت على اعتبار كل ذلك لوعا واعوجاجا، وأنه لا يصح إلا الصحيح، وأن الخط المستقيم هو الأقصر بين أي نقطتين، وأن القوي النبيل لا يسعى للتقدير بقدر سعيه للرضا عن الذات، وأن.. وأن.. وأن.. من كل هذا الهراء الذي نردده كالببغاوات بلا فهم حقيقي، فيخرجنا من الدنيا بنفس البلاهة و"العبط" اللذين دخلناها بهما!
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى