الخياط أبو برهان يطرد جيرانه

الخياط أبو برهان يطرد جيرانه

08 اغسطس 2017
+ الخط -
كان أجير الخياط "مراد" يغلي الشاي لضيوف معلمه الخياط أبي برهان، ويرهف السمع لأحاديثهم تطبيقاً لوصايا أبيه الذي يصر على أن انتباه "الأجير" إلى حديث "المعلم" ضروري حتى ولو كان خارج نطاق القص والدرز والكي وفتح العراوي والحبكة وتركيب الأزرار، فلربما طلب المعلم منه شيئاً على حين غرة، ووقتها لا يحق له أن يقول: والله يا معلمي ما انتبهت! 

وكان الخياط أبو برهان رجلاً سميناً غير ذي رقبة، نزقاً يتشاجر مع ذباب وجهه حتى ولو كان ذباب وجهه في إجازة! وهو يتجاذب أطراف الحديث مع ضيوفه حول أمور هذه الدنيا الفانية (هو يلفظها: الفاينة!)، وقد دخل في الموضوع الذي يقض مضجعه، فقال:

- خذوا مثلاً البالة. أنا أعرف، وأنتم تعرفون، أن الرجل حينما تعوزه الكسوة يشتري قماشة طقم وطنية أو إنكليزية، ويحملها ويذهب بها إلى الخياط، ويقول له: خيط لي هذا الطقم! فيأخذ الخياط مقاساته ثم يعمل له بْرِاوا أو بْرَاوتين (يقصد: بروفا أو بروفتين) وبعد أيام يسلمه طقمه مكوياً ومُهَنْدَسَاً مثل الصلاة على النبي! الآن أصبح الخياطون لا يستفتحون بعشرة قروش سورية، لأن الناس وصلوا كل آمالهم بالبالة! والحمد لله أن البالة فيها من كل الأشكال والألوان والموديلات، رجالي ونسائي وولادي، وداخلي وخارجي، وربيعي وصيفي وشتوي وخريفي، ومن كل القياسات، يعني وحتى السيد (أبو مصطاف) الذي كنا نخيط له طقمه بتوب كامل من القماش أصبح يعثر على طلبه في البالة! يا شباب، أناشدكم بالله وأضع يدي فوق رؤوسكم أجيبوني عن هذا السؤال: هل تعرفون ما معنى كلمة (البالة)؟

ولم ينتظر أبو برهان حتى يجيبه الضيوفُ عن سؤاله، فأجاب نفسه قائلاً: البالة تعني ثيابا مستعملة. وهل يوجد أحد في العالم يقبل على نفسه بأن يلبس ثياباً لبسها غيرُه وتَمَشْوَرَ بها في الأسواق والشوارع والبراري وعلى البيادر؟ طيب، لنفرض أن هذا الذي كان يلبس هذه الثياب كان جربان أو مقملاً أو "منهوجاً" أو مسلولاً، فكيف ترتدون ثيابه؟ ألا تخافون من العدوى؟ أنا وجهت هذا السؤال لواحد لا يستحي من لبيسة البالة، فقال لي: يحطون لها نفتالين يا حجي! والنفتالين يقضي على العثة!

قال أبو قدور الذي كان جالساً بين الضيوف بلهجة ملغومة تبعث على الغضب:

- ولكن يا أبا سعيد، الناس طفرانة، والبالة، مثلما تقول، نعمة من عند الله سبحانه وتعالى. صحيح أن الأجانب طوال مثل الحور ونحن معظمنا قصيرون ومدعبلون مثل الششبرك، ولكن القياس يمكن معالجته، وأنت خياط وتعرف أن تقصير البنطال وخَصْوَرة الجاكيت وحَبْك الأكمام هي من الأمور الممكنة. ثم لا تنس ما معك يا أبا سعيد، فقماش البالة متين و(قايمجا) والسكين لا تخرقه، ولا يحتاج إلى كي، يعني غسيل ولبس.

قال أبو برهان وجوزة حلقه تكاد تنفجر من الغيظ:

- أفهم من هذا الكلام أنك تقف مع البالة ضدي أنا؟

قال سالم شرابة الخرج مراوغاً: بل أنا مع الحق!

قال أبو برهان: ليت بطنك يطق! يخرب بيتك! جحش! تفضل أنت والشباب فانقلعوا من دكاني قبل أن يصعد غضبي فأركلكم بقدميّ وأخرجكم من دكاني.

وقال لمراد: وأنت، أما تزال لاطياً مثل الحردون بجوار بابور الكاز؟ هيا أطفئ البابور واسفح محتويات الإبريق في البالوعة، فأنا ليس لدي شاي لمن يقف مع البالة!

هَمَّ أحد الضيوف بالكلام فقاطعه أبو برهان قائلاً:

- أنت والشباب تنقلعون من هنا قبله، لأنكم طوال ما كان هو "يتفذلك" في مديح البالة بقيتم ساكتين مثل الشياطين الخرس التي اعتادت أن تسكت عن الحق.

خرج الشباب ومعهم أبو قدور من دكان أبي برهان، وما إن أصبحوا خارج الدكان حتى انفلتوا بالضحك على حماقة أبي برهان ومحاولته المستميتة الوقوف في وجه تيار البالة المتدفق.

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...