مشاجرة بين الدائنين لاقتسام الراتب

مشاجرة بين الدائنين لاقتسام الراتب

28 اغسطس 2017
+ الخط -
يعتبر صديقي أبو الجود من أصحاب النكتة الذكية، وهو راوٍ شفاهي لا يشق له غبار، بل إنه معلم.. وأنا شخصياً اقتبستُ عنه عدداً لا بأس به من القصص القصيرة التي كان يحبكها بذكاء منقطع النظير، وكل ما فعلتُه أنني كنتُ أصوغُها بأسلوبي الأدبي، ثم أقدمُها للقراء مع إهداء صريح إلى مؤلفها الأصلي، وكنت دائماً أخاطبه بعبارة: إلى معلمي فلان (مع ذكر اسمه الصريح)..  

يشبه "أبو الجود"، من حيث الحجم، المعلم شعبان الذي كان له برنامج تمثيلي يبث من إذاعة القاهرة قبل ثلاثين عاماً، وكان الموسيقار الكبير سيد مكاوي يصفه في مقدمة الشارة بقوله: 

المعلم شعبان 

طويل عريض 

لو دب في إيدو الحيط 

يقدر يسلم بها عالجيران

وأبو الجود، إلى ذلك وسيم، أشقر بعينين خضراوين، ولكنَّ نَحْسَ العالم، كما يقول هو، قد انصب عليه دون أن تتسرب منه قطرة هنا أو هناك. وقد روى لي مرة أن ابن حارته الفهلوي "أبو سليم بورية" أحب أن يمازحه فقال له:

- الله يبعث لك يا أبا الجود رحمتين، رحمة تركض هي وراءك ولا تستطيع أن تلحقك، ورحمة تركض أنت وراها وما تلاقي لها أثر!

وعلق أبو الجود قائلاً: 

- ومع أن أبو سليم بورية ما بيعرف كيف يكون الوضوء على أي من المذاهب الأربعة، ولا يدير وجهه نحو القبلة المحمدية، ونَمَّام، وذمته واسعة،.. فقد استجاب الله سبحانه وتعالى على ما يبدو لدعائه، بدليل أنني لم أجد نفسي في يوم من الأيام إلا مفلساً، مديوناً، عائفاً رد السلام.

قلت لأبي الجود ذات مرة:

- ولكن ألم يترك لك والداك المرحومان أي نوع من الإرث أو التركات؟

قال: بلى، تركا لي إرثاً لم يترك أبوان لولدهما مثله في البلاد كلها قط.

قلت: فما هو؟

قال: تركا لي عزة النفس، وحب الوطن، والنزاهة والأخلاق الحميدة، وعمتي "نورا" المريضة.. وتركا لي، من جملة ما تركا، ثلاث أخوات شقيقات مصابات بمرض واحد هو الربو، وقائمة بالديون المستحقة على الوالد، لم أتمكن من تسديدها، بل أضفت عليها ديوناً جديدة، وقد اختلط حابل ديون أبي بنابل ديوني، وتاه العداد بين مَن حَصَّل دينه كاملاً، أو جزئياً، ومَنْ ينتظر الفرج، ومن قطع الأمل بالتحصيل فتنازل عن حقه، ومَنْ صالحَ على مبلغه بمبلغ أصغر، وهكذا دواليك وهلمجراً وإلخ إلخ.

قلت: ولكنك كنت موظفاً عند الحكومة، على ما أذكر.

قال: هذا صحيح، ولكنني في تلك الأيام كنت أستدعي الدائنين على اختلاف أنواعهم، في أول الشهر، وأحشرهم في غرفتي الصغيرة وأناولهم راتبي كاملاً وأقول لهم: 

- اقتسموه فيما بينكم بالطريقة التي تعجبكم!

وأتركهم وأخرج من الغرفة، وأعود في آخر الدوام لأجد وجوههم متورمة وأسنانهم مخلوعة نتيجة العراك بالأيدي، والضرب بالبوكس، والرفس والعض، اقتتالاً على راتبي المسكين!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...