ضرب الرأس بأقرب جدار

ضرب الرأس بأقرب جدار

16 اغسطس 2017
+ الخط -
ابن بلدنا الخياط النزق أبو برهان طرد جيرانه من دكانه لأنهم تجرأوا على مديح الثياب المستعملة (البالة) في دكانه، باعتبار أن دكان الخياط التي ترمز للنظافة والقيافة والترتيب والأناقة لا يجوز أن تُذكر فيها كلمات وسخة مثل بالة، وثياب مستعملة سبق لأناس آخرين أن لبسوها، وبرأيه أن هذا العمل أصعب بكثير من خرق العِرْض وتدنيس الشرف الرفيع.  

ولكن أبا برهان، بعدما خرج أصدقاؤه من دكانه مطرودين، ندم على فعلته أشد الندم، وقال لصانعه مراد ما معناه إنه يوجد شخص واحد في العالم أحقر من البالة، ألا وهو "الشيطان الرجيم" الذي لا يفتأ يوسوس للإنسان حتى يُخرجه عن طوره فيرتكب حماقة لا يمكن لعاقل أن يرتكبها، يعني، بالعربي الفصيح، الرجل الذي يتسلط عليه الشيطان يصبح مثل البغل الشموس الذي تقترب منه لتطعمه وتُكرمه فيجمع قائمتيه الخلفيتين على بعضهما ويرفسك (بالجوز) رفسة تفتح لك في واجهتك طريقاً من النوع الأوتوستراد. 

ثم زفر زفرة تكفي لإحداث زوبعة وقال لمراد: بودك الصراحة يا مراد؟ أنا معلمك أبو برهان، إذا بقيت على إفساح المجال للشيطان أن يلعب بعقلي مثلما يلعب الجَدْي بعقل التيس فلن يبقى في البلد رجل واحد يقول لي: مرحبا قاردش. 

وكان مراد قد أطفأ أبريق الشاي، وتركها لتختمر، فقال له أبو برهان: 

اشرب أنت الشاي. أنا عندي مشوار ضروري.

وخرج من الدكان يجدُّ في أثر أصدقائه فوجدهم جالسين في المقهى، فدخل واعتذر منهم، ووبخ نفسه أمامهم بأقذع العبارات وهم ساكتون وكأن على رؤوسهم الطيور، وبعد لأي خاطبه أبو قدور قائلاً بطريقة فيها الكثير من التكويع والالتفاف:

- بصراحة يا أبو برهان أنا زعلان منك لأجل موضوع تاني غير موضوع البالة، وغير موضوع طردك إيانا من دكانك!

استغرب أبو برهان وقال: وما هو هذا الموضوع؟

قال أبو قدور: أنت تعرف أنني من هواة الراديو، وأمضي النهار وأطراف الليل وأنا أقلب إبرته من محطة إلى محطة، ومع ذلك، قبل أيام، كنتَ جالساً هنا في هذا المقهى، وأخذت تسب على الراديو وعلى الذي اخترعه. صار هذا الكلام أم لا؟

غضب أبو برهان مرة أخرى، وصرخ في وجه أبو قدور:

- أي سيدي، صار، وأنا سبيت على الراديو، وعلى الذي اخترعه، أليس عيباً على الرجال أن يقعدوا في مكان ما مثل المجاذيب وكل واحد منهم يفتح فمَه ويُرخي نفسه ويعطي أذنه للراديو؟ كأننا نحن الرجال لا يوجد لدينا حديث نحكيه، ولا عندنا مقدرة على الأخذ والعطاء حتى نسمع الراديو. وبعدها أنا أريد أن أعرف هل الراديو ابن عمك الرَّبْعي حتى تزعل مني إذا سبيت عليه وعلى الذين اخترعوه؟ هل الراديو صهرك حامي عرضك؟! يخرب بيتك! كم أنت علاك وأكَّال هوا! جحش.

قال أبو تيسير: طول بالك أبو برهان.

قال: لا، ما رح أطول بالي. أخي، أنا رجل مجنون، وأهبل، وندمان كتير لأني جيت لهون وقررت أني أعتذر منكم. معقولة أنت؟ معقولة تنتظرني حتى أهدا وأروق وتفتح لي سيرة النكد؟ سيرة الراديو؟ أخي مرحبا. قولوا لي مرحبتين.

قالوا: مرحبتين.

قال: أنا بطلت مهنة الخياطة، وهذا الدكان تبعي بودي أغلقه وأختمه بالشمع الأحمر وأبيعه بالمزاد العلني. ووقتها تفضل أنت والشباب واشتروه واكتبوا عليه (محلات أبو قدور لبيع البالة). قال أبو قدور بهدوء مفلق: في الحكي العادي، بيننا وبينك نقول (بالة) يا أخي أبو برهان. ولكن في كتابة الآرمات واللافتات يجب مراعاة اللغة العربية السليمة. فنقول: محلات أبي قدور لبيع وشراء الثياب المستعملة. وبين قوسين نكتب: أبو برهان للخياطة سابقاً. لم يقل أبو برهان أي كلام، اندفع نحو باب المقهى وهو يرفس الكراسي والطربيزات بقدميه وأخذ يتمتم: شو هادا النهار. بالة وكمان راديو؟!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...