مؤانسات رمضانية (17) الورثة يتابعون معاملة التقاعد

مؤانسات رمضانية (17) الورثة يتابعون معاملة التقاعد

23 يونيو 2017
+ الخط -
قال كمال الطبنجي: ثمة شريحة من الناس أنتم لا تذكرونها في أحاديثكم، مع أنها شريحة مهمة جداً، وأعني شريحـة المتقاعدين. هل تعلمون ما تعنيه كلمة "متقاعد" بالضبط؟ إنه ذلك الإنسان الذي أمضى من 25 إلى 40 سنة من حياته وهو يذهب إلى الوظيفة ويرجع إلى البيت مثل مكوك الحايك. وإذ يبلغ الستين من عمره فالمفروض به أن يرتاح، ويكون مرفهاً، لا شأن له بالحسابات المالية التي توجع الرأس.

ضحك أبو البهاء وقال: أنا متقاعد، وراتبي، إذا حسبناه بالدولار، يعادل 59 دولاراً، لا فوقها ولا تحتها. هنا اسمحوا لي أن أكمل الفكرة التي عرضها أخونا أبو كمال فأقول: إذا كان الموظف الذي يستيقظ من بخش الضو لكي يذهب إلى الدوام، ولا يعود إلى بيته حتى قبيل المغرب، يشكو من قلة الرواتب، فماذا نفعل نحن المتقاعدين ومعاشاتنا تساوي نصف رواتب الموظفين تقريباً؟

قال أبو نزار المفلسف: أنا أقول لك ماذا تفعل. قف في زاوية من السوق وتفرج على الأغنياء وهم يملؤون سياراتهم بالبضائع الغالية، وابلع ريقك بصعوبة، وقل: ما شاء الله.

قال الحاج عمر: قلبتوها غَمّ!
قال أبو النور: أبو محمد على حق، ولذلك أنا سأحكي لكم حكاية مسلية. ذات مرة، يا شباب، التقيت بصديق لي يدعى أبو إبراهيم، وكان يحمل تحت إبطه مصنفاً (دوسيه) فيه معاملة سميكة. سلمت عليه وسألته: ما هذه؟ فقال:
والله يا أبو النور، هذه معاملة المعاش التقاعدي. قلت مداعباً: بعض المتقاعدين يسمونه: ما عاش! قال: التسمية صحيحة، ولكن ما العمل؟ إن حصاة صغيرة يمكن لها أن تسند جَرَّة.

قلت: ولكن على علمي أنك أحلت على المعاش منذ سنة، فلماذا أنت متأخر في إنجاز المعاملة؟ قال ضاحكاً: أنا المتأخر؟! طيب هل تصدق إذا قلت لك إنني من يومها أتابع تسيير المعاملة وحتى الآن لم أصل إلى نتيجة؟ قلت: يا رجل، أنت تمزح.

قال: لا والله العظيم لا أمزح، تعال نجلس في المقهى فأحكي لك.
المهم، ذهبنا إلى المقهى، تابع أبو إبراهيم رواية الحكاية قائلاً: أعدّوا لنا القرار، وأحالوه إلى "ديوان المحاسبات" للتأشير عليه وإثبات صحته من الناحية القانونية، وهنالك اكتشفوا أمراً مذهلاً.
قلت: ما هو؟
قال: يوم تعينت في الوظيفة قبل 38 سنة، لم أكن قد أرفقت بأوراقي الثبوتية ورقة تشير إلى أنني غير موظف! أضف إلى ذلك أن قرار تعييني الأول لم يكن مؤشراً من ديوان المحاسبات.
قال أبو البهاء: ولي. من حسن الحظ أنه لم يجن. وماذا فعل بعدها؟
قال أبو النور: حن قلبي عليه، وصرت أرافقه يومياً من دائرة إلى دائرة وعلى مدى عشرين يوماً، وفي كل يوم، حينما أعود إلى البيت تسخن لي زوجتي الماء وتغسل قدمي، فمتابعة معاملة معقدة كهذه أشبه ما يكون بالأعمال الشاقة في السجون، حيث يطلب من السجناء حمل السرير والصعود به إلى السطح، ثم العودة به إلى حيث كان بالضبط.
وكانت زوجتي قد تعلق اهتمامها بالرجل وأشفقت عليه، حتى جاء يوم سألتني ذلك السؤال. قالت: من زمان لم ترافق صديقك أبا إبراهيم لمساعدته في موضوع معاشه التقاعدي.
فقلت لها: يا أم النور، أنا لا أرى داعياً لذلك، فورثته والحمد لله كلهم شباب، وقادرون على متابعة المعاملة وصعود الأدراج أكثر مني ومن أبي إبراهيم، رحمة الله عليه!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(يعود تاريخ هذه الحكايات إلى ما قبل ربع قرن من الزمان)
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...