مؤانسات رمضانية (9)
كيف تتزوج وتحصل على مقلاع نادر

مؤانسات رمضانية (9)
كيف تتزوج وتحصل على مقلاع نادر

12 يونيو 2017
+ الخط -
كان شرطنا الأساسي لاستئناف السمر في هذا الرمضان المبارك، هو ألا يدور أي حديث، ولـو عرضياً، عن الزراعة ومشاكلها التي لا تنتهي، خصوصاً وأننا نسمر في بيئة فلاحية؛ فلو واربنا هذا الباب قليلاً لانفتح في لحظات على مصراعيه، ولأغرقنا السمارُ بالحديث عن أسعار البطاطا والقمح والبذار والفلاحة والتعشيب واستئجار العمال..
قال أبو نزار المفلسف:
- حصل معنا، ذات مرة، شيء ظريف في هذا الصدد. كنا نسهر في إحدى ليالي الشتاء، فقررنا منع التحدث في الزراعة، ولكننا كنا نعود إليها لا إرادياً كل دقيقتين أو ثلاث، يومها حكيت للأصدقاء نكتة لها علاقة بما يسمونه بالـ.. ماذا نقول عن الفكرة التي تسيطر على الإنسان فتأسره؟
قال أبو النور: يسمونها الوسواس المتسلط.

قال أبو نزار: أي نعم، ففي قديم الزمان مرض رجل يدعى (عبدان) بالوسواس المتسلط، وقد تجلى مرضه بالمقلاع. اشترى خيطاً ثخيناً، قسمه إلى قسمين، وربطهما بقماشة مُجَوَّرة بحيث تتسع لحجر متوسط الضخامة في داخلها، وشرع يدور في أزقة القرية والمقلاع بيده، يلوح به ثم يرمي الحجر فتنقذف بقوة وسرعة، وتسديد محكم إلى الهدف الذي يحدده عبدان.
وقد آذت تصرفاتُه تلك أهالي القرية بأشكال مختلفة، فمن كسر زجاج غرفته، ومن كسرت ساق حماره، ومن أحدثت الحجر المضروبة خرقاً في جدار خيمته، حتى إنه كان يستطيع أن يمرر الحجر المقذوف بجوار أذن من يشاء من الرجال دون أن يصيبه، ومن قوتها تؤدي إلى ثقل في السمع في أذن الرجل!
وفي آخر مرة أصاب امرأة بالخطأ، فآذاها.. وكان هذا هو السبب المباشر لإدخاله إلى مشفى الأمراض العقلية الكائن فـي قرية "دويرينة" إلى الشرق من حلب، على طريق "الرقة".
قال أبو النور: يا سيدي المفروض أن يأخذوه إلى دويرينة منذ البداية، فهذا مجنون نظامي!
قال أبو نزار: بالعكس يا أبو النور، عقله يزن جبلاً، ولولا وسواسُ المقلاع هذا لما توقف أحد عنده قط. ولكي أثبت لك صحة كلامي اسمح لي أن أتابع رواية قصته. فالمتعارف عليه أن الرجل عندما يدخل إلى الدويرينة بموجب استدعاء مقدم من ذويه، أو من الأهالي، أو من النيابة العامة إذا كان مؤذياً للمجتمع، فإنهم يعرضونه على لجنة طبية تشكل من خيرة الأطباء المختصين، ثم يٌعهد به إلى الطبيب المشرف.
وقد لاحظ كل من عرض عليه عبدان أنه مثال للرجل المتزن، الذي يجيب على قدر السؤال، ودائماً ينزوي في طرف من المشفى ويبكي على حاله ومصيره، حتى إن الأطباء والممرضين والخدم أحبوه وصاروا يطعمونه معهم ويسمحون له بالنوم في غرفة المناوبة، خوفاً من أن يضغط عليه تأمل أحوال المجانين فيجن وهو العاقل.
قال كمال: أف! ما داموا قد وثقوا بسلامة عقله لماذا يتركونه عندهم؟
قال أبو نزار: بسبب المقلاع. فعبدان علقت في لاشعوره حكاية المقلاع، وصار يترنم باليوم الذي سيخرج فيه من هذا المكان التراجيدي ليفصل مقلاعاً أقوى من المقلاع الذي صادروه عنده، ووقتها تعال وتفرج كيف سيرسل الحجر وكأنها قذيفة يسددها رام ماهر!
قال أخي طلال: والله إنها مشكلة حقيقية.

قال أبو نزار: ولكن الدكتور المشرف عليه، واسمه عامر على ما أذكر، استطاع أن يحلها أخيراً.
قلنا: كيف؟
قال: لقد استطاع أن يقنع عبدان بأن حكاية المقلاع هذه هي السبب في بقائه الطويل هنا، وأنه فقط لو مر باللجنة الفاحصة وحاورهم ورد على أسئلتهم من دون ذكر المقلاع فسوف يطلقون سراحه، ثم همس له بمحبة:
أخي، بعدما تخرج من هنا أنت حر، فصل المقلاع الذي تريده والسلام!
فكر عبدان في الأمر ملياً، ثم إنه وافق، والطبيب المشرف رفع تقريره إلى اللجنة الفاحصة بأنه شفي تماماً.
فلما وقف أمام اللجنة سألوه أسئلة كثيرة كان يجيب عليها برجاحة عقل مدهشة، إلى أن قال له أحدهم: حسناً، لقد قررنا إطلاق سراحك، ولكن قل لي ماذا ستفعل بعد خروجك؟
قال: سأعمل في الزراعة أو في أي شيء أكسب منه عيشي.
قال: عظيم، وبعد؟
قال: حينما أمتلك بعض النقود سوف أخطب وأتزوج.
قال رئيس اللجنة: هذا عين العقل يا عبدان. ولكن قل لي، هل لديك فكرة عن كيفية الزواج؟
قال فردان: طبعاً. أول خطوة، أخطب، ثاني خطوة أجهز العروس بالحلي والملابس الجميلة، ونعقد القران، فتصبح زوجتي بالحلال، فآتي بها إلى البيت وسط الزغاريد والرقص والغناء. وعندما نصبح وحيدين أرفع عن رأسها الشماغ، ثم أرجوها أن تخلع القميص، ومن ثم أربط كمي القميص بالشماغ، ووقتها سوف أحصل على مقلاع!

(يعود تاريخ هذه الحكايات إلى ما قبل ربع قرن من الزمان)



خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...