جسم البغال وأحلام العصافير

جسم البغال وأحلام العصافير

07 ديسمبر 2017
+ الخط -
يتشعب مفهوم (ولدنة الحرام) إلى شعبتين رئيستين، الأولى، عمادُها ابن الحرام الذكي، الخبيث، الذي لا يُصلى له بنار، ولا يمكن الإيقاع به بسهولة، لأنه مؤذ، وحقير، ويلعب على عشرات الحبال، وتجتمع فيه سبعة عيوب الشرع..

والثانية عمادُها رجل منفاخ، أحمق، يعتقد، أو يتظاهر بأنه أكبر من حجمه الطبيعي، يمشي مزهواً، ويقرع الأرض بحذائه ذي النعلين الحديديتين، يخافه الناس الأوادم ويبتعدون من طريقه وهم يهتفون في سرهم: يا لطيف، اللهم أبعد عنا أولاد الحرام!

وإذا قيض له مَنْ يضعه في زنقة تؤدي إلى كشف حقيقة رجولته الفارغة تراه يفش وينفث مثل دولاب البسكليت حينما يدرج فوق مسمار الكندرجي المدبب! ولكنه لا يقلع عن المنفخة، لأنها شيء في الطبع، والطبع يغلب التَطَبُّع.

الشاعر العربي حسان بن ثابت رفع السخرية من هؤلاء المنافيخ إلى مستوى لا يمكن أن يطاوله أحد حينما رد على هجاء "الحارث بن كعب" فقال له بعد أن رَخَّم كلمة (حارِث) فأصبحت (حارِ):
حارِ بنَ كعبٍ ألا الأحلامُ تزجركمْ
عني وأنتم من الجوفِ الجماجيـــــرِ
كأنكــــم قـصــــبٌ جــــــــــــــوفٌ مكاسـرُهُ
مثـقــــــــــــــبٌ فيــه أرواحُ الأعاصـــــــــــيرِ
لا عيبَ بالقومِ من طولٍ ولا عَظمٍ
جسمُ البغـالِ وأحـلام العصافيـــرِ

حدثني صديق لي من أحد البلدان الشمالية، اسمه (عين)، فقال:
- حينما كنا في المرحلة الابتدائية كان معنا فتى يدعى (سين)، نحيف، انطوائي، لا هو من الطبل ولا هو من الزميرة، لا يقترب من أحد، ولا يتشاجر مع أحد، وإذا احتدمت أمامه مشكلة أو مشاجرة، سرعان ما يهرب من المكان لئلا تصيبه إصابة طائشة..

وقد سافرت أسرته بسبب طبيعة عمل أبيه في الجمارك إلى دمشق، وما عدنا نراه.. إلى أن دعيت إلى الخدمة العسكرية، وصادف أن خدمتي أصبحت قريبة من دمشق، فاستكريت بيتاً فيها وصرت أنام في هذا البيت في أيام العطل واستراحات الخميس والجمعة.

ذات يوم وأنا أتمشى في حي الصالحية لاح لي من آخر الشارع رجل من أولئك الرجال الذين يلعبون رياضة كمال الأجسام، طويل، عريض من الأعلى، ضيق الخصر، ينضح بالقوة والرجولة. واستغربتُ أنه أخذ يقترب مني حتى وصل إلي وضرب بكفه على كتفي وقال:
- مرحبا يا قبضاي!
المهم، بعد جهد جهيد عرفت أنه هو (سين) نفسه! وأن جسمه، في فترة المراهقة، أخذ يشتد ويكبر، وزاد هو في القصيد بيتاً حينما سجل في ناد لكمال الأجسام، فكانت الحالة التي رأيته فيها.

وقفنا قليلاً في جانب من الطريق، استرجعنا بعض ذكريات أيام الدراسة في البلدة، ثم سألني:
-إلى أين؟

قلت: بصراحة، أريد أن أتمشى هنا وأتفرج على نسوان الشام اللواتي يزدن في جمالهن عن التصورات والأحلام!

قال: والله فكرة. أنا أيضاً أريد أن أتمشى معك ونتفرج على نسوان الشام.
ومشينا. وما هي إلا خطوات قليلة حتى حرن مثل بغل شموس. والتفت نحو أحد العابرين وقال لي:

- أرأيت؟ ذلك الرجل الذي اجتازنا قبل قليل؟ زاورني. أريد أن أضربه ضرباً أهشم به حنكه!
قلت وقد استبد بي الخوف والقلق: أنا لم ألاحظ ذلك. ولماذا يزاورك؟!

بعد عناء أقنعته بمتابعة المسير وغض النظر عن المزاورة، وإذا به يكرر الحران كبغل، يريد أن يفتعل مشكلة مع عابر آخر. وقتها خطرت لي فكرة، فقلت له:
- ما رأيك أن تمشي أنت ولا تلتفت، وأنا أراقب المارة، فإذا لاحظتُ أن أحدهم يزاورك أدلك عليه!
قال: اتفقنا.

مشينا زمناً طويلاً دون أن تحصل مشكلة، إلى أن شاهدتُ رجلاً بدا لي وكأنه برتبة مدرب في رفع الأثقال وكمال الأجسام والملاكمة دفعة واحدة. استوقفتُ صاحبي (سين) وقلت له:
- هذا الرجل كان يزاورك. وبصراحة أكثر؟ لقد بصق عليك!

وقف سين، ونظر إلى الرجل، ويبدو أنه حسبها، فوجد نفسه غير قادر على مجابهته، فقال لي: امش صديقي امش! أكلما زاورنا أو بصق علينا أحد لازم نعمل مشكلة؟! الله يسامحه دنيا آخرة!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...