هل مات الشّعر حقاً؟

هل مات الشّعر حقاً؟

21 مارس 2024
+ الخط -

لن يمرّ هذا اليوم، أقصد اليوم العالمي للشّعر، دون أن أدوّن انطباعاً صغيراً هنا. ولأنّي لا أشارك إلّا نادراً جدّاً بقراءةِ قصائدي، مُتجنّباً بدافع الحمية فقط "حلوى الكريم" التي يحبّها الشعراء في يومهم الاستثنائي الذي يشبه حفلة التخرّج، يظل في وسعي أن أستغلّ بعض الوقت بالرّجوع إلى الوراء كي أتأمّل المشهد، وأسمح لنفسي بقولِ بعض الأشياء المتطرّفة.

لا أعرف منذ متى بالتحديد بدأنا نسمع كلاماً تأبينياً صريحاً عن الشِّعر، في العالم العربي، يفسِّر وضعه المقلق، وبأنّه في حالةِ موتٍ سريري، أو أنّه مات بالفعل، فانتقلت سلطته إلى الرِّواية. والغريب أنّ هذا الكلام ينزّ عن كثير من الغرابة، حيث إنّ الموضوع هو نهاية الشّعر، ومساعدة النّاس على ابتلاع هذه الفرضية الطاغية.

لم أكن في الحقيقة مشغولًا بهذا الكلام الذي يراوح بين الرِّثاء والشماتة. أمّا ردّي على طقس الحداد المصطنع هذا، فكان هو التعجّب: إذ كيف يمكن لهذا الفنّ أن تكون له أهمية عند القاعدة العامة من القرّاء في الأساس، وهو فنّ المنعزلين، باستثناء الأهمية التي يضفيها عليه المُتورٍّطون في كتابته؟ وأولئك الذين يقرأونه كما لو أنهم يفكّون شيفرة الرّوح؟ ثم منذ متى أصبحت طبيعته الانعزالية موتاً؟ ومتى كانت الفنون تتنازع على العرش؟ وهل يقاس التّاج المزعوم بالكميّة العددية للقرّاء؟ 

متى كانت الفنون تتنازع على العرش؟ وهل يقاس التّاج المزعوم بالكميّة العددية للقرّاء؟ 

الأكيد أنّ الشّعر فنٌّ صعب، يُشعر أغلب النّاس بالملل كالفلسفة تمامًا. أو هو مثل ثقب أسود، يبتلع مفردات العالم، ولا يُظهر غير العماء. فنٌّ بعيد ساكنٌ وسط محيط الصمت، فنٌّ بلا إثارة. وليس كما هي عليه السّينما أو الموسيقى أو الرّواية أو حتّى القصّة القصيرة جدّاً. ولتذوّق هذا الفنّ الشبيهة لغته بتعقب آثار وعل في رياح القطب الشمالي، تظلّ الحاجة إلى أرواحٍ شفيفة (شفيفة إلى حدٍّ تُحيل أصحابها إلى مجرّد أشباح يتجوّلون على حافة هذا العالم)، بدل الحاجة إلى أكاديميين لغويين أو طلاب شعبة الأدب المثقلين بهموم الدرس كما كان الأمر عليه سابقاً، أو جمهور يشطح برأسه إيقاعُ المفاعيل ورقص القافية. فمنذ الرّومانسيين الذين أفرطوا في ذاتيتهم ورفعوها إلى النجوم، والشّعر يشفُّ، فيما في علاقة طردية يتعقّد، ويُصغِّر دائرة قرّائه. أما عن تلك الأهمية التي أصبح يفتقدها الشّعرُ اليوم، فدعونا نشكّك إن كانت في الأصل خالصة من أجله:

من حظِّ القصيدة ربّما، أو من سوء حظها أنّها انطوت على دفعات كبرى، لم تكن شعرية بالأساس بل وظيفية وعملية. وهي بهذا جعلت الناس يضفون عليها بعض الأهمية، ويمنحون للشعراء شيئًا من المكانة المعتبرة في تاريخ الإنسانية الطويل. أوّلها تسجيل الملاحم، والبطولات. وثانيها، قدرتها على حفظ اللغة كوعاء يحفظ السّمن من التلف. وثالثها، بيانها الماكر في وضع رموز السلطة مكان الآلهة أو القمر، والذي تفنّن فيه شعراء البلاط المتسوّلين. ورابعها، كونها قد مثّلت في غياب أيّ وسيلة دعاية أخرى لسان حال القبيلة أو الأمة. وخامسها، إيقاعهُا الذي يسهل الترنّم به على العود أو الدف، أو عند صدى جدران الكنائس. 

لكن مع مسيرة النّقد الذاتي والتيّارات الشِّعرية الجديدة التي نحت بها نحو حريّة التجدّد والصفاء والفردية واتساع الوعي خارج إطار الثقافة الجمعية الضيّقة، اضطرت القصيدة إلى التخلّص من كلّ هذه الدفعات القويّة الواحدة تلو الأخرى. ثم، فلنتخيّل إذن، ما الذي أمكنه أن يحدث غير ما حدث، أي أن يرى البعض في فقدان الشِّعر وظيفته الاجتماعية نهايته الصريحة. 

مع سقوط كلّ الأفكار الكبرى بدأ الشّعر في شدّ أوتار القصيدة لتطلق نغمة روحه السّحرية الخالصة

أفهمُ جيّداً لماذ تأخر العرب قليلًا في هذا النعي الكاذب، وقد كان عليهم أن يعلنوه صراحة في عصر بدر شاكر السياب، ثمّ يدفنوا الشّعر نهائيًا مع أوّل عدد من مجلّة شعر في لبنان. إلاّ أنّ موجة جديدة من إحدى تلك الدفعات الكبرى أرغمتهم على تأجيل ذلك. وقد شكلتها الإيديولوجية القومية، وسؤال الحداثة في الفنّ والمدينة. لكن، مع سقوط كلّ تلك الأفكار الكبرى، بدأ الشّعر في شدّ أوتار القصيدة لتطلق نغمة روحه السّحرية الخالصة. 

الشّعر لم يمت، وإنّما بدّل عوالمه، وغيّر مفهومه. وبذلك من الطبيعي أن يصبح "فنّ الأقليّة وليس الأكثرية"، كما تقول الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا. فنّ الحقيقة التي تضيع من العقل المنغلق. مرجعها الفردانية، وليس الآخرون، لا الثقافة الجمعية ولا التربية الدينية أو الوطنية. مرجعها الخيال كقوّة إدراك روحية وحدسية عظيمة. لذلك فالشّاعر لم يعد متسوّلًا في البلاط ولا مدّاحا ولا صدّاحاً بنبرة ترشد المؤمنين إلى سيف صلاح الدين، بل أصبح منعزلًا كالفيلسوف، لا مرئيّاً تقريباً. 

ثمّة سطر للشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه لمع في ذهني اللحظة، يختزل تعريفاً جديداً لهؤلاء الشعراء، شعراء المستقبل الأحرار الذين تكهنت بعض الأقلام الجنائزية بموت الشّعر على أيديهم، إنّهم يردّدون في هذا السّطر المضيء بصوت واحد: "نحن نحلات اللّامرئي، نمتص بلهفة العسل المرئي، لنجمعه في قفائر اللّامرئي الكبيرة".