أدونيس في مرآةٍ محدّبة

أدونيس في مرآةٍ محدّبة

10 ابريل 2024
+ الخط -

كلّ ما كُتب حول الشاعر السّوري الأصل، اللبناني، الفرنسي "أدونيس"، يجعل الناس تعتقد في أحدِ أمرين: إمّا أنّه أحد أهم الشعراء الذين أنجبتهم اللغة العربية عبر تاريخها الطويل، أو أنّ الرّجل الأنيق بشاله الشتوي الأحمر الطويل الذي يرمز إلى عيدِ حبٍّ لا يريد أن ينتهي، وإلى عشقٍ دائم إلى الحياة، مجرّد رمية نرد عدمية بيد الحداثة. لذلك يتذرّع شعره بالغموض ليُخفي ضعفه وهشاشته.

يمكن للبعض أن يتساءل ببراءةٍ أيضاً: من أين جاء الضوء في اسمه؟ هل من الأسطورة ذاتها؟ من شعره ومجلّة شعر؟ أم من كتابه الفارق "الثابت والمتحوّل"، ومن فكره ومواقفه الجريئة في قراءته للواقع العربي والتراث الديني تحديداً؟

شعراء أيضاً، من جيله ومن الجيل الذي بعده، وحتى من هذا الجيل الذي أنتمي إليه لا يجدون موقفاً موحّداً أمام هذه الشخصية الإشكالية، التي تثير دوماً الزوابع. فتتلقى كردِّة فعلٍ كيلاً من الشتائم والمطارق النقدية التي تنهال عليها من كلّ جهة. فلا يكون ردّ أدونيس إلاّ بضحكةٍ طفولية، لا هي ساخرة، ولا ماكرة؛ بل رقيقة وخفيفة وبريئة. لا تكلّفُ نفسها حق الردّ. مهما تمعّنت فيها لن تكون سوى ضحكة طفل على الحياد.

كتب أدونيس أعمالاً شعرية ضخمة. معنى هذا أنّ كلّ ذلك الطعن في شعريته لم يزده إلا إصراراً على الشّعر. فهو، وإن كره الكارهون، ما وُلِد إلا ليكون شاعراً. لقد جاء أساساً من العدم ليقلب الشّعر وفق تصوّره الخاص. تعجبني هذه الثقة الكبيرة التي لا يحوزها إلا المجانين أو العظماء بحق. وأدونيس لم يكن مجنوناً ولا شخصاً يهذي، رغم أنّه يقرأ شِعره وهو مغمض العينين ككاهن، فلا يرى المعنى إلا هو. لقد وُجد شعر أدونيس أساساً ليتجاوز المشترك، ويخرق الإجماع. في قصيدة شبكية سائلة غير محدّدة المعالم. إنّه ما لم يتعوّده القارئ العربي الذي يسمّي النّص الشعري بالقصيدة، بحثاً عن القصدية والمعنى الجاهز في رأسه من نظم القصيدة. أدونيس لا ينظم، بل يوزّع ويشتّت ويُهرّب المعنى من القصدية المباشرة. يذكّرني هذا بشعرِ شاعرٍ آخر على الضفة الأخرى، الأميركي، جون آشبري، الذي احتار فيه الوسط الثقافي، بين إن كان مجرّد شخص غامض يشخبط على الورقة ما يشبه القصيدة، أو أنّه على الأرجح شاعر هائل يتماهى مع العبقرية. يردُّ آشبري بثقة على الجميع: "الشعراء الذين يمنحوننا المعنى لا يعرفون عن أيّ شيء يتحدثون".

يقرأ أدونيس شِعره وهو مغمض العينين ككاهن، فلا يرى المعنى إلا هو

انتُقد أدونيس بسبب موقفه من الثورة السُّورية. هذا الثائر يتحفظ بشكلٍ عجيبٍ على الثورة، لأنّها خرجت من الجامع ولم تخرج من الجامعة؛ مع أنّ الذين عُوقبوا وسُجنوا وفَقدوا حياتهم بسببها، كانوا خريجي جامعات. ولكن، من يضمن حقاً سرقة الثورة من هؤلاء الشباب الثائرين؟ الوضع ملتبس. لكنّ أدونيس هنا بدا متذبذباً في أدونيسيته، متأشكلاً بوضوح. لن أحشر قلمي في أمورٍ يعرفها السوريون أكثر مني، لكن فقط بداعي اللّعب أمام المرآة أطرق طرقاً خفيفاً هذا الموضوع. مرّة أخرى وبطرقٍ أخفّ، هل سمعنا لابن "قصابين" (مسقط رأس الشاعر) موقفاً واضحاً من الإبادةِ الجماعية في غزة؟ أنا لم أسمع. ولا أعتقد أنّ أحداً قد سمع. فأدونيس لا يقول كلّ مواقفه بوضوح. تماماً مثلما يقول شعره بغموض. ربّما الحقيقة مرعبة إلى هذا الحد، تبتلع  كالثقبِ الأسود كلّ المواقف والتصوّرات والأفكار والعواطف ولا تبقي إلا على الصمت المطبق. أو ربّما هو خوف الشعراء الغريزي من الطرد إلى خارج أسوار المدينة. يُقرّ أدونيس بشجاعة لم ينتبه لها أحد: أنّه خائف! وبعبارة ملطّفة: من الصعب أحياناً الإفصاح عن بعض الآراء والمواقف بوضوح. إنّه ليس جريئاً إلا وفق ما يسمح به حذره. علي أحمد سعيد حذر ومتحفظ، مع أنّ أدونيس يبدو على العكس من ذلك. يلعب كلاهما لعبة شطرنج مستغلقة على الجميع؛ لكنها سهلة وبسيطة، وبلا قواعد تقريباً كلعبة الشّعر؛ وتتحرّك بيادقها بحرّية هازئة بالنصر والهزيمة، لأنّ اللاعب نفسه من الجهتين. ومساحة الشطرنج هي ساحة لعبه الحرّ. 

أحبّ أناقة أدونيس الصدامية في الشّعر تحديداً. أناقة هادئة، مع الشال الطويل، والنظارة الشفافة كماء النبع. إنّها أناقة شاعر حقيقي. لكنّي أتعجّب من حداثته التي تظهر كي تختفي كثعلب محمد زفزاف. وأمّلُّ حقاً من تدويره الكلام، مع أنّني أجد له مبرّراً كافياً، فهو مهنته وخبزه.

أدونيس لا ينظم، بل يوزّع ويشتّت ويُهرّب المعنى من القصدية المباشرة

ينعكس الشاعر في مرآته المحدبة بجبهةٍ واسعة، ورأس كبير مشتعل بثلج الحكمة يُثقلُ على القصيدة. يبري قلمه الباريسي الذي لا يزال أطول من برج إيفل، ليكتب نصّه العربي الفصيح المدوّر إلى ما لا نهاية كسؤال بلا أجوبة. يتنزّه في جنّة عقله ويقطف وردة. يفكّك بتلاتها، وينثرها في الصفحة البيضاء أبجديةً ثانية. رافعاً الجرس الخفي للغة العربية، محرّكاً إيّاه في الهواء، فيرنُّ في الكلمات الحرّة المتشظية: شعراً حراً؛ لكنّ الأنا فيه مقيّدة. سلطوية وتقليدية ومُتنبيّة. مع ذلك وبشكلٍ مموّه، يكتب الشاعر من الثقافة كخارج عن الثقافة. إنّ أدونيس هو الالتباس الفاضح، هو وضدّه في آن معاً. المادّة والمادّة المضادة. إنّما كشاعر مفكّر، وكمفكرٍ شاعر يستطيع أن يذهب أبعد ممّا تعصره يدُ شعرنا العربي كلّه. يفكّر أدونيس ويفكّر ويفكر، التفكير يجعله ليّناً ومتحوّلاً وغير ثابت. أمّا الأبدية لديه فهي الأبجدية؛ حيث الإقامة والمسكن. حيث الجنة والضوء والأفق، والأجنحة.

يظلُّ في رأيي أدونيس قامة شعرية كبيرة، مناخ شعري مختلف. لكنّه غير منزّه كغيره، عن أن يقف أمام مرآة قارئه المحدّبة.