هل ثمّة إهانة في الفن والأدب؟

هل ثمّة إهانة في الفن والأدب؟

18 مارس 2023
+ الخط -

ليس من اللائق الضحك بسبب بدانة شخص أو بسبب نحافته أو عرجه أو عوره أو ما شابه. يعدّ ذلك سقوطا أخلاقيا؟ إلا في الرسوم المتحركة، حيث قد يبدو الدب بضخامته المبالغ فيها مضحكاً فعلا، دون أن يؤذي ذلك الضحك الدب أبداً. فدب الرسوم المتحركة الهارب من سرب نحل، وهو يتعثر ويسقط، ليس دباَ حقيقياً حتى، بل دب وهمي فقط. بعض محبّي الحيوانات المدافعين عن حقوقها قد يعتبرون حتى السخرية من بدانة دب وغبائه سقوطاً أخلاقياً واعتداء سافراً على كرامة الدببة. سوى أنه، ولحسن الحظ، لم يخرج أحدهم حتى الآن على الأقل، باحتجاج ضدّ الرسوم المتحركة. 

الأدب أيضا يشبه الرسوم المتحركة إلى حد بعيد. فالشخصيات غير حقيقية بالضرورة، بل هي بالضرورة غير حقيقية. إنها محض خيال، وليست حتى موازية لشخصيات الواقع، بل بالأحرى موازية لشخصيات الرسوم المتحرّكة، حيث يمكن لشخصية مثلاً، أن يمرّ فوقها قطار، أو أن تسقط من أعلى طابق في ناطحة سحاب، أو أن تخترق صدرها رصاصة، دون أن يحدث لها شيء، بل تنهض مباشرة لتواصل حياتها دون مشاكل. كما أنّ أيّ شخصية داخل فيلم كارتوني أو داخل قصة أو رواية، لا يمكنها أبدا التفاعل مع قارئ قد يكرهها ويشتمها، أو قد يحبّها ويعبّر لها عن حبّه، إنها ببساطة شديدة ووضوح لا تراه، لا تسمعه، ولا يمكنها الرد عليه، لأنها من عالم آخر، من عالم الأخيلة وليست من العالم الحقيقي الواقعي، رغم أنّ لها اسما وأسرة وحياة طبيعية مرسومة على الورق. إلا أنها لا تدعي أبداً أنها تنتمي إلى عالمنا، وأنّ لها أحاسيسنا ومشاعرنا. 

وحين يبدأ كاتب ما مثلا برسم شخصية بدينة جدا، تأكل كثيرا، وتنام كثيرا، وليست مستعدة أبداً للعمل بقدر ما هي مستعدة فقط لالتهام المعكرونا، البيتزا، النقانق والبطاطا المقلية... بمتعة، وللتثاؤب، فهذا يجب ألا يجرح مشاعر أحد أبداً، مثلما لا يجرح مشاعر أحد حجم دب الرسوم المتحركة وظرافته وسخافته. 

بل لهذه الترميزات المضمرة أبعاد أخرى أكثر إصابة لأهداف تظل مضللة وبعيدة المنال. بل الأمر خال تماما من أيّ نوع من القدح الأخلاقي أو التفكّه والتندّر على خلقة الناس أو مآسيهم، إذ إنّ سياق الأدب سياق آخر، وسياقه سياقات كثيرة أيضا، من الأدب الجاد الصارم، إلى الأدب الساخر الهزلي الذي لا يبغي تلك المسحة من التقطّب على الجبين والإحساس بالأهمية والكمال والترتيب والتناسق بقدر ما يرمي إلى الدهشة الطفولية والابتسامة والشغب والتحرّش بيقينيات المجتمع وأوهامه. 

كي يصل الأدب إلى الأعماق السحيقة للإنسان لابد أن يحفر هنا وهناك، وأن يجرب هنا وهناك، وأن يلازم الممنوع والمحظور ويتلبس به دون إفراط ودون تفريط

إنها ضرورة قصوى تحتّم على الكاتب المشي فوق هذا الخيط الدقيق بتدفق كبير للأدرينالين في دمه الذي يسبّبه رعب المغامرة وخطورة التجربة واحتمال انزلاق قدمه عن الحبل إلى أسفل، حيث ليس هناك سوى الهاوية. المشي على ذلك الخيط ضروري، بل ومحتّم للعبور إلى ضفاف أخرى. ذلك الخيط الدقيق الممتد بين التناقضات، بين المرغوب والممنوع، بين السعادة والشقاء، بين الخطأ والصواب، بين الأخلاقي وغير الأخلاقي، بين الأمان والخطورة، بين الهزل والتراجيديا، إلخ... حيث يشدّ الانتباه وتنحبس الأنفاس وتسمع دقات القلب. 

وكي يصل الأدب إلى الأعماق السحيقة للإنسان، لابد أن يحفر هنا وهناك، وأن يجرب هنا وهناك، وأن يلازم الممنوع والمحظور ويتلبس به دون إفراط ودون تفريط، دون مبالغة واستفزاز مجاني أو تجاري طبعا، لكن أيضا دون مسافة أمان معه. طبعا هنا تبدو الصنعة التي أدهشنا بها كتاب كبار عبر العالم منذ بداية التاريخ، ويبدو أيضا أنّ فن الكاريكاتير الذي ينبني أساساً على نقاط ضعف الإنسان ونقائصه وعيوبه وأخطائه بتحويل النحيف جدا الذي يشبه سلك التلغراف المعطل إلى أنحف، والبدين الذي يشبه اليقطينة التي فازت بسباق القرية إلى أبدن، والأنف الطويل إلى حبة موز والأنف القصير إلى ذرة رمل، يبدو فناً ساخراً، عظيماً، فكهاً، ومدمراً للرتابة والبداهة، وليس فناً استهزائياً غير أخلاقي. فحتى حين ترى أنفك في رسم كاريكاتيري وقد تحوّل بقدرة الرسام إلى برج إيفل، فهذا لا يشعرك بالإهانة، بل بالسعادة والفخر والامتنان للرسام. 

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.