عاش على هامش الحياة

عاش على هامش الحياة

14 ابريل 2024
+ الخط -

ولد حميد بتخلف عقلي غير واضح، كان متبلدا على الدوام، نظرته شاردة مذ كان رضيعا، رأسه أضخم بكثير من رؤوس الرضع العاديين، مخاطه طويل وعريض وأخضر ولا يتوقف عن السيلان. 

إضافة إلى كل ذلك فتح عينيه في جو تعم فيه الفوضى والتفكك الأسري والفقر المدقع كما يقولون في التلفاز. كان والده طلابا، بالفصحى متسولا، يملك رجلا واحدة فقط، أما الرجل الثانية فقد استبدلها بعكازة شبيهة ببندقية البارود، أشعث دائما، تنبعث من ثيابه الرثة رائحة بول قديم مغثية، سبق له أن سجن خمس مرات بتهمة النصب والاحتيال، يدخن الكيف والحشيش وأحيانا يتعاطى أقراصا مهلوسة. أم حميد أيضا كانت متسولة، بالدارجة طلابة. عوراء، بدينة، بشعة حسب رأي أهل الحي وليس حسب رأي السارد الذي لم يرها ولم ير زوجها الذي لم يصفوه بالوسامة هو أيضا. يقول المثل الدارج: طلاب تزوج طلابة وتهنات المدينة. تزوج متسول متسولة فارتاحت المدينة. المتسول لا يتزوج في الغالب إلا متسولة، في ذلك حكمة نجهلها. عاشا في كوخ، تسولا معا أمام أبواب المساجد والجوامع وأمام شبابيك استخلاص الأموال الإلكترونية. مارسا الحب فوق الحنبل (زربية مغربية) الطويل العريض المطوي على شكل سرير وأنجبا حميد.

مرت الأيام سريعا، اختفى الأب ولم يعد بإمكان السارد استقصاء أخباره. ماتت الأم بالسل الذي تسبب لحميد أيضا بالعدوى، سوى أن حميدا نجا. كان عمره تسع سنوات حينها ومخاطه في أنفه ما زال طويلا عريضا أخضر يميل في الشمس الساطعة إلى الزرقة البحرية الشفافة. يقول المثل الدارج: عمر مساخيط الوالدين طويل. الفقراء والبؤساء والملاعين أعمارهم طويلة. هذا أيضا لحكمة يجهلها الجميع. كان حميد قد تعلم التسول بمهارة وإتقان. مظهره الذي لأبله ساعده كثيرا. حافيا على الدوام صيفا وشتاء. سرواله فضفاض سحّابته مفتوحة دائما. شعره كثيف وأشعث. يداه مليئتان بالدمامل والبثور والسيكاتريسات. أظافره طويلة وسوداء. عيناه صغيرتان وبياضهما متكدر بحمرة شنيعة كنهر مخوض. بنيته قوية رغم ذلك سوى أنه لا يستطيع أن يؤذي عصفورا. خوف عميق ومبهم كان يسكنه. لم يعد يملك الحنبل لينام عليه. أصبح ابن شارع. ضاع كثيرا وتشرد وتوسد العتبات. ينام أينما اتفق. يتحشش ويشم السيلسيون (لصاق نفاذ الرائحة) ويبلع حبوب الهلوسة ويتسول في المقاهي والمطاعم وفي يده علبة ماسح الأحذية الشبيهة بكوخ السنافر. يأكل بقايا السندويتشات وحين يقرر أن يرفه عن نفسه يشتري سندويتش لحم رأس الخروف ومثلجات، بالضبط بّولو لونه أخضر. كان يحب هذه الأكلة وأن يمصمص بعدها الثلج الأخضر المحلى بالسكر. كانت هذه الوليمة بالنسبة إليه بمثابة البدخ والترف الفائقين. دلفقته الأيام كما شاءت في الشوارع والطرقات وتعلمت الريح الصفع في خديه السمينين. كل هذا كان محتملا بالنسبة إليه ومستساغا، إلا سخرية المارة من شكله وهندامه ومن نظراته البليدة. كان عرضة للاعتداء المستمر من محششين آخرين، هدفا سهلا للصفع واللكم والركل، إضافة إلى ذلك ظلت الكلاب الضالة وكلاب حراس السيارات تهاجمه بمجرد أن تراه لأسباب مبهمة.

مرت الأيام بطيئا. كبر حميد. بلغ العشرين. تعاظمت ضخامة بدنه وعلى العكس من ذلك تضاءل عقله أكثر. كان يعاني في حقيقة الأمر من تخلف عقلي منذ ولادته، أما السيلسيون والكيف والحشيش والمهلوسات فضاعفت ذلك التخلف عشرات المرات. المدينة أيضا أصبحت لا تطاق، فقد امتلأت عن آخرها بالدور والعمارات والبشر الذين لم يعرف من أين جاءوا. لم يعد يجد أين يبيت. كل ما يجده هو الصفع والركل كلما افترش كرتونة أمام باب عمارة أو محل تجاري أو بيت.. 

مرت الأيام بطيئا. كبر حميد. بلغ العشرين. تعاظمت ضخامة بدنه وعلى العكس من ذلك تضاءل عقله أكثر. كان يعاني في حقيقة الأمر من تخلف عقلي منذ ولادته

في تلك الليلة العاصفة الماطرة القارسة من ليالي أواخر الخريف ضاقت به السبل. كان نعسانا وقد طرد من ثلاثة أماكن. أخيرا رأى بناية البنك الجميلة نظيفة ومضاءة من الداخل ودافئة دون شك. ارتعش كجرو خرج توا من مستنقع. لم يعد بإمكانه احتمال البرد والبلل والنعاس. خبط زجاج البنك بصندوق ماسح الأحذية ودخل. الله.. المكان دافئ وشاسع ومريح. تلوى على نفسه كقط تحت أحد مكاتب الموظفين ونام. جاء الموظفون في الغد وفتحوا الباب فوجدوا حميدا. جاءت الشرطة وسحبته من ياقة قميصه الرثة إلى المخفر. كتبوا في المحضر أنه ضبط متلبسا بمحاولة السطو المسلح من أجل سرقة بنك. كان يريد فقط أن ينام لكن الشرطة لا تصدق مثل هذه الأكاذيب. قذف به في السجن. حكم بأربع سنوات نافذة. الشامبري (العنبر) رقم أربعة في الجناح رقم ثمانية الذي اقتاده إليه رئيس الجناح كان مكتظا. لا يوجد مكان لحميد. كل ما وجده هو الصفع والركل من المساجين. اذهب بعيدا يا نذير الشؤم. تفو على وجهك البغيض. لماذا جئت إلى هنا أيها الأهبل. قم من قربي وإلا بعجت لك أنفك يا بوخنونة (أبا مخاط). انتهى به الأمر إلى النوم قرب المرحاض. أصبح ذلك هو مكانه. يستيقظ قبل كل المساجين ولا ينام إلا بعد نوم الجميع. ليس لأنه يحب الاستيقاظ باكرا أو لأنه يحب السهر والسمر بل لأن المساجين الذين ينامون على الأرضية يطوون الأفرشة ويضعونها في مكان حميد قرب المرحاض نهارا، بالتالي يظل منذ الصباح بلا مكان حتى يقرر آخر سجين سحب فراشه. حينها فقط يسقط حميد أرضا كميت متوسدا عتبة التواليت، لا يستيقظ أبدا حتى حين يبول فوق وجهه سجين، ولا يحلم بشيء. ينام مرتاح البال. كجثة هامدة. متقوقعا على نفسه كحلزون.

رغم ذلك بدا حميد سعيدا في السجن. قال ذات مرة لمسجون آخر: لا أريد الخروج من هنا بعد انقضاء مدة حبسي. سأله السجين باستغراب: لماذا؟ أجابه: ليس لي مكان أذهب إليه أو أبيت فيه، ثم الأكل هنا مجانا. كل شيء متوفر، الشراب والحشيش والقرقوبي (حبوب الهلوسة) ومكان للنوم، لا أريد أن أغادر السجن. 

في النهار يشتغل حميد بلانطو (خادم مساجين)، أو كرافة (مكلف بالسخرة) كما يسمي السجناء ذلك. يكنس الشامبري ويسيقه ويجففه ويصبن ثياب مساجين عتاة ويرقص لهم ومقابل ذلك يقذفون في اتجاهه نصف سيجارة أو ربع لفافة حشيش. بعض السجناء يقايضونه بصفعة مقابل سيجارة فيقبل مبتهجا بالعرض. مع الوقت أصبح حميد مهرج الشامبري. لم يسبق له أبدا أن احتج أو غضب أو ثار. لقد كان متقبلا بشكل كامل ومثالي لمصيره الدرامي. حتى في السجن ظل حافيا وظل مخاطه يسيل كعلامة مميزة له وبسبب ذلك سموه بوخنونة. لا أحد كان يعرف أن اسمه حميد فقد كان مخاطه أطول وأوضح وأبلغ من اسمه. أصبح حميد مشهورا في السجن كله ومحبوبا. حتى الحراس يصفعونه مازحين معه معربين له بذلك عن الود. أصبح شخصية أساسية وضرورية. أخيرا وجد شيئا يتقنه وهو إسعاد المجرمين وإضحاكهم وخدمتهم. لم يبد أبدا أن خديه يتأثران بالصفع أو أن عجيزته الضخمة تتأثر بالركل. لقد بدا حميد سعيدا جدا في السجن وقد مرت أربع سنوات فخرج ولم يمر أسبوع حتى عاد بعد أن كسر واجهة بنك آخر ودخل ليبيت فيه منتظرا أن يأتي البوليس صباحا لإعادته إلى مكانه قرب مرحاض العنبر. جاء البوليس هذه المرة بعد اقتحامه للبنك بنصف ساعة. عاد مبتسما ببلادة إلى الشامبري فرحب به السجناء وأكرموه بعلبة سجائر كاملة وبسندويتش لحم الرأس وأحدهم أخرج سكينا وصرخ فيه: حين تنتهي من الأكل ها هو بولو ينتظرك..

مرت الأيام بشكل روتيني، دون سرعة ودون بطء. نقل حميد من ذلك السجن إلى سجن آخر في مدينة أخرى نائية فلم يعد بإمكان السارد تتبع أخباره..

عاش على هامش الحياة في الخارج كما في السجن أيضا. سوى أنه وجد التواليت سريرا في السجن على الأقل. كان يقف عند الباب الحديدي مساء، ممسكا بقضبانه بكلتا يديه، متأملا كفيلسوف الإضاءة الشحيحة لكروا (كولوار) السجن والمساجين القلائل الذين يتجولون في تلك الساعة، وقطط السجن الضالة، والصراصير الكثيرة التي تحوم حول المصباح وتصطدم به وتسقط. يتأمل كل ذلك بعمق شديد بنظراته التراجيدية البطيئة البليدة، يتنهد وتسيل دموع سخينة من عينيه دون أن يبكي. كان ذلك بسبب الرمد فقط.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.