هلالة والعيد... أم كلثوم وعبد الناصر وغازي أبو عقل

هلالة والعيد... أم كلثوم وعبد الناصر وغازي أبو عقل

03 مايو 2022
+ الخط -

حينما حضر "كريم"، زوج هلالة، لزيارتنا في إلمسهورن، كنا على بعد أيام من العيد. وقبيل انتهاء السهرة في المقهى؛ أخبرني أنه سيسافر مع حبيبة قلبه هلالة إلى مدينة "كيل"، وسيعودان إلى إلمسهورن صباح العيد، وعلينا أن نكون، أنا وأم مرداس، جاهزين لنذهب معهما إلى هولندا.

كان هذا العرض مفاجئاً، ومحرجاً، فأنا وأم مرداس لا نحب السفر لأجل النزهات، وخلال وجودي هنا في ألمانيا سافرتُ مرتين، مرة إلى بروكسل، ومرة أخرى إلى برلين لأجل تجديد جواز السفر السوري الذي تنتهي صلاحيته بعد الحصول عليه بأقل من سنتين. فالجواز السوري - بحسب لغة السائقين - ليس اقتصادياً، (بيعمل سنتين بالتنكة). فإذا سافرنا إلى أمستردام سينطبق علينا وصفُ الصديق لقمان ديركي للاجئ السوري بأنه سائح بالصرماية (أي غصباً عنه).

قالت هلالة لزوجها: خلنا نعطهما فرصة للتفكير، فإذا وافقا يتصل بنا أبو مرداس ونمر بهما، وستكون رحلة طيبة برفقة أحلى صديقين في ربوع أمستردام.. على كل حال دعونا الآن نكمل حديثنا من حيث توقفنا. بصراحة أنا لا أحفظ الكثير من شعر بيرم التونسي الذي كنتما تتحدثان عنه.

قلت: أنت تحفظين أغنيات كثيرة لأم كلثوم، وتترنمين بها، ولكنك لا تعرفين أنه من شعره. على سبيل المثال أغاني أم كلثوم القديمة كلها من تأليفه، حلم، والأولة في الغرام، والآهات.. وحتى "هوّ صحيح الهوى غلاب" التي كتبها بمناسبة صلح أم كلثوم مع زكريا أحمد.

قالت باندهاش: أم كلثوم خاصمت زكريا أحمد؟

أريد أن ننهي حديثنا عن بيرم التونسي بفكرة أراها مهمة، وهي أن هذا الشاعر الرومانسي الكبير، في الوقت نفسه، شاعر ساخر من الطراز الرفيع

قلت: أم كلثوم تخاصمت مع معظم الشعراء الكبار، والملحنين الكبار في عصرها. مع أنها تحبهم وتحترمهم، وهم يحبونها ويحترمونها. ولكن، كانت لها رهبة، وكانت تتصف، كما قال عبد الوهاب، بالعناد.. وهو ليس عناداً فطرياً فارغاً، بل إنه عناد مبني على ذكاء، وفهم، وحساسية فنية وشعرية عالية، وخبرة في الألحان والمقامات تمتد من أيام الطفولة حتى اقترابها من سن السبعين.. وكانت قد خاصمت رياض السنباطي عشر سنوات، وكان السنباطي أكثر منها اعتداداً بنفسه وعناداً، يصرح، أمام أصدقائه أنه سيستمر في مقاطعتها إلى آخر العمر، ولكن الشيء الذي يبعث على الدهشة، كما يروي حلمي بكر، أنها، حينما اتصلت به هاتفياً، وقالت له: ازيّك يا رياض؟

قال لها حالاً: أهلاً يا ست الكل.

قالت له: قوم تعالَ لي.

قال: على طول.

وحمل عوده، وذهب إليها مثل البرق. وبعد هذا الصلح أنجزا مع الشاعر إبراهيم ناجي تلك الملحمة الغنائية الكبرى، الأطلال، وهذه لها حكاية يمكن أن أحكيها لكم في وقت لاحق. وأما خصامها مع محمد الموجي فقد تدخَّل جمال عبد الناصر شخصياً لحله.

قال كريم: هذه جديدة علي.

قلت: نعم، وتوجد للثلاثة صورة على الإنترنت، ملخص الحكاية أن عبد الناصر كان يقرب الفنانين الكبار منه، ويعتبرهم نافعين له في تثبيت أركان حكمه، وقد استفاد من غالبيتهم عندما غنوا له، ومدحوه، وهم استفادوا منه فصداقتهم معه كانت تعطيها نوعاً من الحصانة. المهم؛ علم عبد الناصر أن أم كلثوم رفعت قضية على الموجي، لأنه تأخر في إنجاز لحن (للصبر حدود) الذي اتفقا عليه، فلما سأله عبد الناصر عن السبب، قال الموجي: اللحن مش عايز يجي، أعمل له إيه؟

وتصالحا بحضوره، وفيما بعد جاء اللحن، وكانت تلك الأغنية الرائعة. وأما الدعوى (القضية) التي رفعها زكريا أحمد فقد أنهاها القاضي، بعد بضع سنوات من الأخذ والرد، إذا قال لهما، ما معناه، إن كليهما فنانان عظيمان، فلا معنى لخلافهما، وهو، أي القاضي، قرر أن يلتقيا ويتفقا على إنجاز أغنية جديدة تكون ثمرة طيبة لهذا الخصام. فكان ذلك، وذهب زكريا إلى صديقه العتيق بيرم التونسي الذي كتب لهما "هو صحيح الهوى غلاب" التي أذيعت لأول مرة في 1 ديسمبر 1960، وزكريا أحمد توفي بعد إذاعتها بسنة واحدة.

قالت هلالة: يا إلهي. ما هذه الرومانسية؟ وراحت تردد:
هو صحيح الهوى غلاب
ما اعرفش أنا
والهجر قالوا مرار وعذاب
واليوم بسنة

قلت: يمكن لنا أن نحكي في موضوع الجملة الغنائية الأخيرة (اليوم بسنة)، ففيها فلسفة وجودية مدهشة. ولكن، حتى لا أنسى، أريد أن ننهي حديثنا عن بيرم التونسي بفكرة أراها مهمة، وهي أن هذا الشاعر الرومانسي الكبير، في الوقت نفسه، شاعر ساخر من الطراز الرفيع.

قالت هلالة: بجد؟

قلت: طبعاً. أنا شخصياً لا أستطيع أن أنسى هزليته التي يغنيها زكريا أحمد بصوته، ويقول فيها:
يا أهل المغنى، دماغنا وجعنا، دقيقة سكوتْ لله
داحنا شبعنا، كلام مالُه معنى، ويا ليل ويا عين ويا آه
طلعت موضه، غصون وبلابلْ، شابطْ فيها حزينْ
شاكي وباكي، وقال مش عارفْ، يشكي ويبكي لمينْ
واللي جابت له، الداء والكافيه، طرشَة ماهِشْ سامعاه
يا أهل المغنى، دماغنا وجعنا، دقيقة سكوتْ لله

قال كريم مخاطباً هلالة: أحب طريقة أبي مرداس في الاستطراد.

قلت: شكراً.. ولكن اعذريني، أنا ذكرت، في إحدى التدوينات، أنني (أستطرد) فيما أكتب، وبالأخص في فصول مدونة "إمتاع ومؤانسة".. فعلق الشاعر الكبير غازي أبو عقل قائلاً: "أستطرد" تعطي معنى سلبياً، ولعل صديقنا الراحل حسيب كيالي كان يفضل أن يقول "أسترسل"، فهي أصح لغوياً، ومعناها أجمل.

قال كريم: عفواً. هل تقصد غازي أبو عقل الذي يحرر مجلة الكلب؟

قلت: طبعاً، وهل يخفى مثل هذا القمر؟ وقد كتب لي هذا التنويه، فأجبته: شكراً يا أستاذ غازي الجَمِيل. فرد عليَّ قائلاً: غازي الجْمَيِّل. فضحكت، وتذكرت أنني أردتُ أن أمتدحه، ذات مرة، ونحن ساهرون في مطعم تنور أبي أيمن في رأس شمرا، بالقرب من اللاذقية، فقلت له: أنت يا أستاذنا أبو صبحي من الشخصيات المرموقة.

فقال لي: أهل اللاذقية إذا أمسكوا بقطعة من شيء لزج ورجراج يقولون عنها: مرموءة!

(انتهت تدوينات رمضان والعيد. ولكن صحبتنا مع هلالة وكريم استمرت، وسأحكي لكم ما جرى بشأنها في تدوينات بعد العيد. كل عام وأنتم بخير)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...