قهوة وشاي ومليسة للرفيق البعثي

قهوة وشاي ومليسة للرفيق البعثي

21 يونيو 2022
+ الخط -

قال لي صديقي "أبو صالح" الذي كان يكلمني من إدلب إنه يعرف "عبدو الياهو" معرفة سطحية.. وكلما لمحه وهو يسوق السيارة الحكومية ذات النمرة الخضراء، بعدما أصبح مديراً لشركة المنوال، يبتسم، ويوشك أن ينفلت بالضحك، لأن عبدو رجل عجيب، تجتمع فيه الصفتان المتناقضتان اللتان حكى عنهما زينهُم (عادل إمام) في مسرحية الزعيم: النتانة وطيبة القلب.. وأضاف:

- الجميل في الأمر، يا أبو مرداس، أنك رجعت بنا إلى الوراء، وحكيت لي كيف عينوا لشركة المنوال للغزل والمحالج المؤممة مديراً فاسداً سرقها ودمرها، وسرق أموالها وهرب، فجيء بالأستاذ فؤاد ليصلحها ويوقفها على رجليها، ولأن فؤاد غير بعثي، فقد تحايلوا على الأمر ونَسَّبُوه للحزب، ثم عينوه. أنا، بصراحة، كنت أجهل كل هذه التفاصيل، وأصبحتُ متشوقاً الآن لأعرف كيف تمكن عبدو الياهو من زحلقة الأستاذ فؤاد، والجلوس مكانه.

- ليس أسهل من زحلقة رجل يعتمد على إمكانياته الذاتية فقط، مثل الأستاذ فؤاد. ولعلمك، قبل حوالي نصف قرن، حدث الشيء نفسه في مؤسسة السينما بدمشق، حين اضطروا لأن يعينوا مديراً عاماً ذا ثقافة سينمائية عالية، ونزاهة استثنائية، وهو غير بعثي بالطبع، وعندما وقفت المؤسسة على رجليها، وأنتجت أفلاماً هامة، وحازت على جوائز، هز البعثيون أكتافهم، وحمحموا وصهلوا مثل الخيول أثناء المعارك، وقالوا: الحكمُ في سورية لنا، وهذه المؤسسات مؤسساتنا، وعلى قولة المثل (جحا أولى بلحم ثوره)، وأخذوها منه، وعاودت المؤسسة الهبوط بعد ذلك بالطبع.

- يبدو أن المشكلة مع البعثيين ما لها حل.

- كلامك صحيح أبو صالح، ولكن يجدر بنا أن ننوه إلى أنه لا يكفي الواحد أن يكون بعثياً، ومسدداً اشتراكاته لغاية 31/12 من السنة، حتى يُعَامَلَ على أنه من أصحاب الامتيازات في هذا القطر الصامد.. بل يجب أن يكون مدعوماً، أي أن يكون له ابن عم، أو صهر، أو خال، فوق، في الحلقة العليا من الدولة، عفواً؛ أقصد العصابة الحاكمة، أو أن يكون شقيقه عضواً في فرع الحزب، مثل عبدو الياهو، أو معه مال كثير، وطوال ما هو ماشٍ يرشرش من ماله على أفراد العصابة الكبار، وهؤلاء، من حيث تلقي الرشاوى يشبهون البلاليع السالكة، كلما أعطيتها تطالبك بالمزيد..

- مع أننا ابتعدنا عن موضوع عبدو الياهو، إلا أن هذه الفكرة ممتازة. بالفعل، يجب أن نميز بين بعثي عادي وبعثي مدعوم.

غضب منه خيرو، وأغلق الخط بلؤم، ومن يومها صار يناصبه العداء

- طبعاً، ومن الأشياء الطريفة التي حصلت في فترة الثمانينيات أن حواجز التفتيش التي انتشرت في المناطق المشتعلة كان يقف عليها عناصر مُطَعَّمُون على بغال شموسة، فترى الواحد منهم مستعداً للرفس بمجرد أن تقف ذبابة على استه، وكان معهم، على ما يبدو، تعليمات بعدم التساهل مع أي شخص عابر، حتى ولو كان رفيقاً بعثياً، فالقيادة (فوق) تعرف أن سورية فيها ملايين البعثيين الانتهازيين الذين لا يشترون البعث ومؤسسَه وأمينَه العام بنصف فرنك مبخوش.. وذات مرة، تعرض أحد الحواجز في مدينة حلب إلى إطلاق نار، فاستنفرت لأجله مختلف المراكز الأمنية التي كانت تسيطر على مدينة حلب وكأنها قوات احتلال أجنبية، وتوترت أعصاب بغال الحاجز على الآخر، وبعدما عاد الهدوء، مر بعثي مسكين بالحاجز، وعندما بدأ العناصر بتفتيشه، أراد أن ينافق، كما هي عادة البعثيين الصغار، فقال: طول بالك عليّ يا رفيق، أنا بعثي مثلكم!

فرد عليه العنصر، على نحو تلقائي: وإذا بعثي؟ ضرط الكرّ الأخضر.

ونادى معلمه ورفاقه، وقال لهم بمسخرة: تعالوا نرحب بالرفيق، قال "العينتين" بعثي!

فانفلتوا بالضحك، وواحد يقول: ضيفوه فنجان قهوة للرفيق. والثاني يقول: لازم نضيفه، لكن البن خالص يا معلم. شو رأيك نضيفه مليسة؟ فيقول الثالث: اعمل له كاسة شاي إكرك عجم. هذا رفيقنا، محسوب على القيادة.. ويرد رابع: لا دير بالك، الشاي بتعمل للرفيق كَتم..

وبحسب ما سمعت القصة، يومها، أن قصته انتشرت، وصار البعثيون في حلب وغيرها بعدها يمرون بالحواجز الأمنية بفم ساكت..

قال أبو صالح: ممكن نرجع إلى عبدو الياهو، وتحكي لي كيف صار مديراً لشركة المنوال؟

- طبعاً. يا سيدي؛ كان عضو فرع الحزب، الرفيق خيرو، يكره الأستاذ فؤاد، مديرَ شركة المنوال، كما أخبرتك سابقاً. سبب الكراهية أن خيرو، وغيره من المسؤولين البعثيين، كانوا يعتقدون أن موافقة فؤاد على الانتساب للحزب، في سبيل تعيينه مديراً للشركة، تعني أنه سينسجم مع جو الفساد الشائع في البلد، فإذا اتصل به أحد الرفاق، مثلاً، وطلب منه تعيين قريب له في موقع مهم ضمن الشركة، يرد عليه قائلاً (أنت تمون يا رفيق، وهل هذه خدمة تليق بمقامك؟)، وعندما تدخل إلى الشركة سيارةٌ محملة بالمواد الخام، ويحيلها فؤاد إلى الفنيين ليعاينوها، يتصل به أحد الرفاق ويطالبه بإدخالها دون معاينة، لأنها مضروبة (مغشوشة)، يقول له: (بتأمر رفيق. نمررها كرمى لخاطرك). ولكن فؤاد لم يكن يقيم وزناً لكل هذا العلاك، فلقد جاء لإصلاح الشركة، وإيقافها على قدميها، وليس لزيادة الفساد فيها، لذلك كان لا يستجيب لأي طلب غير نظامي، وكان من سوء حظ الرفيق خيرو أنه اتصل به، وطلب منه إرسال بعض منتجات الشركة إلى مكتبه في الفرع، أو إلى بيته مباشرة، كنوع من الهدايا أو الأعطيات، فرد عليه فؤاد: تكرم عينك رفيق خيرو. الآن أحيلك إلى قسم التسويق، لكي يحسبوا قيمتها، ونرسل لكم الفاتورة لتدفعوا الثمن مقدماً، ثم نرسلها لكم!

غضب منه خيرو، وأغلق الخط بلؤم، ومن يومها صار يناصبه العداء.

- يا الله، كم لعب هؤلاء التافهون باقتصادنا وثروات بلادنا!

- المهم. وضع خيرو خطةً رهيبة، للانتقام من "فؤاد" من جهة، وحَلّ مشكلة شقيقه عبدو من جهة ثانية. وقد مشت الخطة بحسب التسلسل التالي: اتصل خيرو بمدير التربية، وطلب منه نقل شقيقه عبدو من مَلاك مديرية التربية إلى ملاك شركة المنوال. وقال لأخيه، قبل أن يلتحق بالشركة: معك ثلاثة أشهر، خلال وجودك في الشركة، تجمع ما تستطيع جمعه من أشياء ضد ذلك المغرور التافه "فؤاد"، وتمكنني من بطحه أرضاً.
ولكن فؤاد لم يترك فرصة لمواهب عبدو الياهو بالظهور بشكل جلي، فبمجرد ما أدرك أن عضو الفرع خيرو بدأ يلعب لعبة ستوصله إلى مأزق أمني، أخذ مفاتيح الشركة، وسافر إلى دمشق، وقابل وزير الصناعة، ووضع أمامه المفاتيح على مكتبه، وفوق المفاتيح ورقة الاستقالة، وقال له: أرجو منك قبول استقالتي دون شوشرة.

وخرج لا يلوي على شيء

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...