طيارة طارت في الليل.. فيها إبراهيم هنانو

طيارة طارت في الليل.. فيها إبراهيم هنانو

11 فبراير 2022
+ الخط -

تشريق وتغريب (5)

بمجرد ما فتحتُ الخط، تدفقَ صديقي أبو أحمد، المتصل من إدلب، يقول:

- تحياتي أبو مرداس، لا تنسَ ما كنا نتحدث فيه قبل أن ينقطع الاتصال. كنتَ تحكي لي عن الغرفة التي بَنَتْها جدتُك "طيبة الزين، أم عبدو"، في الدار الكبيرة، لأجل والدك عبد العزيز، ابنِها الوحيد.

قلت: نعم. ولعلمك؛ نحن العرب بشكل عام، نطلق صفة "الوحيد" على الصبي، وأما البنات فلا نقيم لهن وزناً، ولا نهتم لأسمائهن، ولا لعددهن، ولا لكرامتهن، ولا لمشاعرهن.. نقول عن والدي، مثلاً، إنه وحيد لأبويه، على الرغم من الأخوات السبع اللواتي كن له (عماتي المحترمات رحمهن الله جميعهن). المهم يا أبو أحمد؛ أنا حدثتك، قبل انقطاع الخط، عن عمي جميل، وهو الأخ الأكبر لوالدي من أم حلبية، فجدي، مثل غيره من الآغوات ملّاك الأراضي، كان مزواجاً.. وفي تلك الأيام، كان الابنُ الأكبر يبتهج بكون والده من الأغنياء، وكما يقول الناس (يبطر)، ويصبح مبذراً، ويستغرق في الملذات، أو كما كانوا يقولون، يجهل.. والجهل يا صديقي قاتل، يقتل صاحبه والآخرين، يقتلهم بالفعل وليس بالقول، بدليل أن عمي جميل، كما رُوي لنا، ومن كثرة الليرات الذهبية التي كان يُغدقها عليه جدي الحاج خطيب، قُتل.

- قتل؟! كيف ذلك؟

- يا سيدي، قالوا إنه اشترى، في يوم من الأيام بَمْبَه (قنبلة يدوية)، ومرة كان جالساً في الزقاق المؤدي إلى دار العائلة، وخطر له أن يكتشف محتوياتها، فراح يعبث بالصاعق، فانفجرت به، وقتلته.. وكان له ابن وبنت (زكريا وجميلة) يقيمان في حلب، تعرفنا عليهما عندما كبرنا، وهما وأولادهما من الناس الطيبين جداً.

- الآن فهمت عليك. عمك جميل، رحمه الله، أمه حلبية، وأما جدتك طيبة، أم عبدو، وهي من قرية حزانو، فلم تخلف سوى صبي واحد، هو والدك. صح؟

- ليس بالضبط. يا سيدي، قبل والدي خلف جدي من جدتي طيبة خمس بنات، وصبياً جميلاً جداً، اسمه "بهراوي"، وأنا حتى الآن معجب بهذا الاسم، باعتباري أحب الأسماء النادرة، ولو كنت أعرف سيرته قبل أن أُقفل باب الخلفة لأسميت أحد أبنائي بهراوي.. المهم؛ في تلك الأثناء، توفي جدي الحاج خطيب، وتولت أم عبدو شؤون الأسرة بشجاعة منقطعة النظير.. وللأسف فإن عمي بهراوي قتله (الجَتَا) وهو لا يزال طفلاً صغيراً.. ووقتها أصبح والدي وحيداً بشكل نهائي.

- الجَتَا قتلوا عمك بهراوي؟ مؤكد أن لهذا حكاية مثيرة.

- نعم. والزمان الذي وقعت فيه تلك الأحداث، بحسب تقديري، هو ثلاثينيات القرن العشرين، أيام الانتداب الفرنسي.. دار جدي الكبيرة التي يَلعب فيها الخَيَّال، كانت تتعرض، بين الحين والآخر، لغزو الـ جَتَا، بقصد السرقة والتشليح.

- عفواً أبو مرداس، ممكن تحكي لي عن الجَتَا بشيء من التفصيل؟

- تكرم. يا سيدي، رَكّزْ معي. فرنسا دخلت سورية في 23 تموز (يوليه) 1920، وفي تلك الأثناء كان جدي الحاج خطيب لا يزال على قيد الحياة، وهناك صورة لجدي الحاج خطيب عثرتُ عليها في أحد الكتب التاريخية، ومعه منير آغا الفنري، وإبراهيم بيك هنانو.

- إبراهيم هنانو، قائد ثورة الشمال، ما غيره؟

- نعم.

- بمجرد ما ذكرتَ لي هذ الاسم، يا أبو مرداس، خطرت ببالي (العِدّيوية) التي كنا ننشدها ونحن صغار، وتقول:

طيارة طارت بالليلْ

فيها عسكرْ فيها خيلْ

فيها إبراهيم هنانو

راكبْ على ظهر حصانو

قلت: يا لها من عدّيوية جميلة، وأنا أيضاً كنت أنشدها في صغري. ولكنها، برأيي، افتراضية، لا تستند إلى وقائع. فالطيران في تلك الأيام لم يكن يطير في الليل أبداً، بل إن وجود الطيران في سنة 1920 كان نادراً جداً.. وأنا أعتقد أن أبو طارق، إبراهيم بيك هنانو، لم يركب طائرة طوال حياته.. في كل الأحوال؛ ثمة مبالغات كثيرة تَرِدُ في كتب التاريخ تمجد بعض الشخصيات المهمة. في الذاكرة الشعبية، مثلاً، حكاية تقول إن أحد تلامذة المعري وضع ورقة سيكارة رقيقة على الكرسي الذي يجلس عليه أبو العلاء المعري، وكان المعري وقتئذ خارج مجلسه، فلما عاد، وجلس في مكانه، تساءل:

- هل ارتفعت الأرض أم انخفضت السماء؟

وللعلم، أيضاً، أن ورق السكائر الرقيق جداً لم يكن موجوداً على أيام المعري..

- أوف. طيب ما الهدف من مثل تلك المبالغات؟

- هذا حال الذاكرة الشعبية دائماً.. إذا أرادوا أن يقولوا لك عن شخص كالمعري إنه ذكي جداً، وحساس جداً، يخترعون مثل هذه الحكاية، مع أن المعري لم يكن بحاجة لمثل هذه المبالغات لكي نعتبره كبيراً، وذكياً، وحساساً، فهو كبير وذكي وحساس بحد ذاته.. وبرأيي أن حكايته مع الشريف الرضي أحلى من هذه بكثير.. وملخصها أن الشريف الرضي تكلم بسوء عن المتنبي، الذي كان يُعرف باسم أحمد (أحمد بن الحسين الجعفي الكندي الكوفي)، فرد عليه المعري:

- تكفي أحمدَ قصيدتُه التي مطلعها: لَكِ يا منازلُ في القلوبِ منازلُ

فانتبه الشريف الرضي إلى العمق البعيد الذي رمى إليه المعري، وهو قول المتنبي، في القصيدة ذاتها:

وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ

فهي الشهادةُ لي بأني كاملُ

فغضب وقال: أخرجوا هذا الكلب (يقصد المعري) من مجلسي.

فخرج المعري وهو يقول:

- الكلب مَن لا يعرفُ للكلب سبعةً وسبعين اسماً.

وعندما أحصوا عددَ أسماء الكلب في اللغة العربية، بعد هذه الحادثة، وجدوا أنها سبعة وسبعون!

ذهل أبو أحمد، وقال:

- طوال عمري وأنا أحب اللغة العربية، وأحترمها، وأفتخر بها، ولكنني الآن زعلتُ منها كثيراً الآن.

- ليش؟

- أنا يا أبو مرداس، رجل طويل، عريض، ومع ذلك لي اسم واحد، هو المسجل في الهوية ودفاتر النفوس، واسم آخر ينادونني به أحياناً، أبو أحمد، وطلابي يخاطبونني أحياناً باسم ثالث هو "الأستاذ".. ولكن أن يكون للكلب، حاشا السامعين، سبعة وسبعون اسماً.. بشرفي هذا ظلم!

- عندما ذكرتَ الكلب، يا أبو أحمد، قلتَ (حاشا السامعين). أفهم من هذا أنك تحتقر الكلب؟

- طبعاً.

- معك حق، فنحن العرب نحتقر كائنات كثيرة منها الكلب. مع أن الحري بنا أن نأخذ بالاعتبار أن عدداً لا يستهان به من شعوب العالم يحترم الكلب، ويتعامل معه بطريقة مغايرة لطريقتنا. منها مثلاً.. ألو.. ألو..

انقطع الخط.

(للحديث صلة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...