الهجرة وقوارب الموت

الهجرة وقوارب الموت

04 يونيو 2023
+ الخط -

لم نكن ندري أن الهجرة هي هذا الشتات.. رأينا المهاجرين يعودون بالسيارات وبنظارات رايبن الهوليوودية وبشقراء في اليد فاعتقدنا أن الجنة لا توجد في السماء فقط بل توجد خلف البحر أيضا. خلف السبعة بحار والسبعة جبال. الوصول إليها لا يكلف أكثر من لمسة واحدة على نحاس مصباح علاء الدين السحري. أصبح الجميع يحلم بالهجرة إلى الغرب. حيث تتساقط الأوروهات والدولارات من السماء مع المطر المتواصل. ليس مطلوبا منك أن تقوم بمجهود كبير غير جمع الثروة في كيس كبير، الثروة الطائلة المتساقطة على الأرض مع المطر والثلج. 

الهروب عبر قوارب الموت أو عبر طائرة أو باخرة إلى الضفة الأخرى وجمع المال في ستة أيام. ترك كل شيء وراءك. نسيان كل شيء. 

وهكذا ذات صباح باكر وقارس وجدت نفسي هنا خلف البحر. بدون مقدمات كثيرة. كما لو أن الأمر مجرد حلم مشوش بعد وليمة كسكس عملاقة. أحدق ببلاهة في السماء منتظرا أن يتهاطل المطر أوروهات فوق الباركات الشاسعة الخالية تماما من البشر ومن الجن. سوى أن لا شيء من ذلك حدث أو يحدث. 

مرت السنوات سريعا كسباق الكلاب السلوقية النحيفة جدا والخاطفة. مرت دون حتى أن أستطيع تملي ملامحها. دون حتى أن أستطيع التعرف عليها أو التمييز بينها. 

هل يمر الوقت هكذا في البلاد أيضا؟ كلا.. لقد كان بطيئا جدا كعودة الشيوخ من الجامع بعد صلاة العصر مستندين على عكاكيز. كان الوقت في بلادي بطيئا، واضحا، ثابتا وأليفا. لم أكن أشعر بعجلة على شيء فالجميع غير مستعجلين. الجميع إما جالسون وإما واقفون، يندر جدا ويشح أن ترى شخصا يمشي أو يركض. حتى الذين يمشون في الشوارع يمشون ببطء وروية. يبدو بوضوح أنهم يتنزهون فقط. يبدو جليا أنهم ليسوا على موعد مع أحد أو مع شيء. لا شيء يعكر صفو الوقت في بلادي، فالحياة متوقفة هناك تستريح منذ عصور. تستيقظ صباحا، تفطر ببيض بلدي وزيت بلدي وزيتون متبل لاذع ورغيف ساخن ومقرمش وعصير برتقال حلو وتنتظر المساء. لا تركض في اتجاه المساء بل تجلس وتنتظره. تقف أو تجلس في مكانك تاركا للأرض أن تدور حتى يصل الليل إليك هانئا مطمئنا. 

هنا، العكس هو الصحيح. يظل المساء ثابتا في مكانه وعلى الجميع الركض دون استراحة من أجل الوصول إليه. خصوصا في الشتاء حين ينتهي النهار باكرا جدا ويخيم المساء عصرا. يخيم بسرعة البرق قبل حتى أن يرتد إليك طرفك. يخيم قبل حتى أن تستفيق من دوختك الصباحية. بالتالي يستيقظ الناس باكرا جدا، يأخذون دوشا باردا، يفطرون بسرعة شديدة بمعلبات جاهزة لا طعم لها ولا رائحة ومباشرة يبدأون الركض. تراهم يركضون في كل مكان، في محطات المترو، في محطات الترام، في الشوارع، في الحدائق وحتى على سلالم الإدارات. السيارات سريعة، القطارات سريعة، الطائرات سريعة والمصعد الكهربائي يشبه مكوكا فضائيا بألمنيومه البراق ومراياه المتقابلة وأزراره العجيبة الملونة ينقلك في رمشة عين من الطابق الأرضي إلى السماء السابعة. 

أرى الناس يركضون ولا أفهم لماذا؟ ما الخطب؟ ما المشكل؟ لا أسمع سفارة إنذار ولا أرى على شريط الأخبار عاجلا يعلن حالة طوارئ ورغم ذلك يركضون كما لو في سباق ماراتون حول المدينة لا أعرف بدايته ولا نهايته. إنهم في أوروبا، في الجنة حيث المباني العملاقة والحدائق الغناء والشوارع النظيفة والهندام الأنيق والقانون والرعاية الاجتماعية ورغم ذلك ما زالوا يركضون. 

أركض مثلهم أحيانا سوى أني أتعب بسرعة. تضيع مني الخريطة. لا أرى أمامي نقطة واضحة أركض في اتجاهها، لا أفهم لماذا يجب أن أركض حيث إني لم أعتد هذا الأمر في بلادي فأجلس لأستريح. أجلس في مقهى أو على كرسي طويل في حديقة أو على العشب الأخضر الزاهي. أجلس طويلا قبالة السحاب والغيوم منتظرا أن تمطر مالا.. إلا أنها لا تفعل.. لا تفعل أبدا..

هذه هي الهجرة إذن؟ هذه هي أوروبا؟ يظل فيها الأوروبي أوروبيا وبالتوازي الشديد مع ذلك دون احتمال تقاطع يظل فيها العربي عربيا والمغاربي مغاربيا؟ يركض الأوروبي بينما يراقبه العربي والمغاربي منتظرين أن تسقط من جيوبه أوروهات.. أن تسقط من جيوبه سيارات وشقراوات..

تجد المغربي في بلجيكا منذ عشرين سنة. تدخل بيته فلا تصدق أنك في بلجيكا

وحتى الذين يركضون من بني جنسنا لا يصلون في النهاية إلى مكان محدد أو إلى شيء محدد فيقررون العودة أخيرا إلى بلدانهم، إلى أوطانهم، إلى قراهم البعيدة وضيعاتهم، إلى جبالهم وأنهارهم القديمة، إلى طفولاتهم حيث بإمكانهم أخيرا الاستراحة تحت شجرة معمرة وظليلة تذكرهم بأجدادهم. تذكرهم بالحنو والطيبة والكرم. تذكرهم بثبات السحاب في السماء، بثبات الوقت والزمن وسرمديته. أخيرا يشربون كأس شاي دون خوف من المستقبل، دون ضغوط نفسية، دون ضرائب ودون حاجة إلى الركض. 

هل البلاد شيء آخر غير كأس شاي بالأعشاب تحت تينة ظليلة أو زيتونة عجوز على هضبة أو تفاحة مزهرة. أتساءل دائما لماذا لم أعرف هذا الأمر إلا بعد أن هاجرت؟ بعد أن أصبحت شجرة التين في قريتنا في باحة الدار بعيدة جدا ومضببة في ذاكرتي. هل ما زالت تلك التينة حية؟ ما زالت تضج بالعصافير كل ظهيرة؟ ما زالت ثمارها حلوة كالعسل؟ هل تلك التينة هي الجنة التي تركناها وراءنا باحثين عن جنان أخرى أسطورية؟

وحتى الذين لا يعودون إلى البلاد يفعلون شيئا أكثر غرابة، أكثر حنينا وأكثر درامية. يأتون بالبلاد إلى هنا. يهربونها شيئا شيئا وقطعة قطعة إلى هنا. مثلا: 

تجد المغربي في بلجيكا منذ عشرين سنة. تدخل بيته فلا تصدق أنك في بلجيكا. لقد هرب المغرب عبر هذه السنوات وعلى مراحل إلى هنا. ابتداء من اللحف إلى الوسائد إلى الطاولات إلى الزليج على الأرضية وعلى الجدران إلى الثريا في السقف ونقوش الجبس إلى الزرابي الحمراء المنسوجة باليد إلى أرابيسك النوافذ الذي يذكرك بالأندلس إلى المكتبة بمجلداتها الضخمة الحمراء والخضراء والبنية القاتمة بخطها الكوفي الذي يذكرك بالأضرحة والزوايا وببيت الحكمة في بغداد إلى المطبخ حيث القصعة الطينية العملاقة والبرمة والطاجين الفخاري الجميل والمهراس النحاسي وإبريق الفضة إلى تمر زاكورة وزيت سوس وعسل الأطلس وطبعا: التوابل. توابل جبال ووديان وقرى المغرب اللاذعة. دون أن أنسى البخور الذكر الذي يمنح للبيت روحه المقدسة العصية على التكنولوجيا. ثم لا يكتمل كل هذا إلا بعد أن تسمع أغاني إذاعة طنجة وأذانها الرخيم قادما من مذياع الأب يغطي على دقات كنيسة القديسة كاثرين. 

بعد ذلك لا يرتاح المغربي هنا إلا بعد أن يجاور مغربيا آخر أو تونسيا أو جزائرية أو دمشقيا أو يمنيا. يتبادلون التحية بالعربية والتوابل كما يتبادلون التنهدات والحنين.

تخرج من بيت المغربي فتجد نفسك في بروكسيل كأنك سافرت للتو على متن طاقية الإخفاء ويكفي أن تعود أدراجك إلى بيته، تصعد السلالم، تفتح الباب وتدخل حتى تكون قد عدت إلى المغرب. عدت إلى تونس أو إلى دمشق..

إنها البلاد نفسها التي هربنا منها نهربها معنا في حقائبنا، تتبعنا أينما ذهبنا كظلنا، بترابها وهوائها، بطفولاتنا فيها، بأعراسها الصاخبة وولائمها اللذيذة كما بجنائزها التي تصل أخبارها إلينا قبل أن تصل إلى الجيران هناك. البلاد التي يراها الأوروبيون جيدا في عيوننا حتى حين نغمضها عليها لنخفيها. البلاد الواضحة في جيناتنا، في إيماءاتنا، في حركاتنا وسكناتنا، في رطانتنا باللغات، في حرف القاف وحرف الخاء وفي تعثرنا بالضاد. البلاد التي نحملها معنا أينما ذهبنا، ثقيلة على ظهورنا ومثقلة، لذلك نمشي ببطء، لا نفهم الزمن ولا نفهم الذين يسرعون.. بلادنا البعيدة.. الحارّة.. بأفراحها الجميلة كصباياها.. وبحزن عينيها المزمن كحزن أمهات من هجروها..

 

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.