العيد أب.. كيف تقضيه امرأة فقدت أباها؟

العيد أب.. كيف تقضيه امرأة فقدت أباها؟

28 ابريل 2023
+ الخط -

في كلّ مرة أقرأ قصيدة "ثكلى بلا زائر" للشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني، يخذلني تماسكي وأبكي، رغم أنه كتبها في شهر مارس/آذار سنة 1969م، إلا أنها تجعلني أشعر بكلّ فتاة تقضي عيداً بعد فقدها والدها؛ فالفتاة تظلّ طفلة بجوار أبيها، ومهما كبرت ستعود طفولتها مجدّداً كلّما رأت أباها.

تقول الطفلة/ المرأة التي صارت أماً:

فكيف ألقى العيد يا والدي

أقوى من النسيان ذكرى أبي

العيد أبٌ يخيط من تعبه راحة أبنائه ونجاحهم، أب يقود مراكب الحياة لنغفو في مقاعدها الخلفية ونستمتع بأحلامنا

تحكي ما فعلته النساء من حولها في محاولة لمواساتها وتصبيرها، على الأقل من أجل أن يفرح أطفالها الذي سيقضون عيدهم بدون جدهم هذه المرة:

جاءت قبيل الأمس أمي "تقى"

في لهفة الأم، وعنف الغبي

فاحمّر من تقبيلها مدمعي

وانهدّ من تربيتها منكبي

وهدأتني أمس "وهاسة"

يا بنتي ارتاحي غداً واطربي

لا تحرمي طفليك عيديهما

لاقيهما فرحى، ولو، جربي

ما أنت أولى امرأة فارقت

أباً، جرى هذا لبنت النبي.

لكنها برغم كلّ محاولاتهن تعجز عن لملمة جراحها، وتقضي ليلة العيد في كآبة بالغة:

ولفني ليل كسول، بلا

قلبٍ، بلا حلمٍ ، بلا كوكبِ.

ويأتي الصباح معلناً العيد ناكئ ذاكرة الحب والحنين الموجع، وتصبح كلّ مظاهره مستفزة لشعورها باليتم؛ فالمذياع يثرثر عالياً (يا عيد.. يا عيد..)، والناس يحتشدون ويرقصون، والفتيات الصغيرات يتنقلن من دار إلى دار متباهيات بملابسهن وألوانها العيدية المبهجة، وأيديهن المخضبة بالنقش الجميل؛ فما يكون منها إلا أن تهرب من العيد وتصدّه:

لا، لن أطيق اليوم أمواجه

من صخب عالٍ إلى أصخب

أغلقت باب البيت في وجهه

فانسل من شباكه الأشيب

هربت من تلويح كفيه، من

عينيه، فانثال على مهربي

كيف يرى "ثكلى بلا زائر"؟

وأين من أضوائه أختبي

اليوم "عيد الله" يا والدي

فأين أنت اليوم؟ تهتم بي.

يأتي الصباح معلناً العيد ناكئ ذاكرة الحب والحنين الموجع، وتصبح كلّ مظاهره مستفزة لشعورها باليتم

ثم تسرد كيف كان والدها يزورها من قبل الضحى، يناديها بدلال ويدلّل ابنتها، وتتذكر كيف كان ابنها يظل يردّد اسمه، وكيف يتلذّذ والدها بكعكها وقهوتها، ويثني عليهما فيعيدها تشجيعه طفلة فرحة كالطائر؛ فالإطراء والغزل من الأب يختلف عن سائر البشر:

تقول "كعكي" لم تذق مثله

"كقهوتي" في العمر لم تشربِ

يعيدني تدليلك المشتهى

صبية؛ كالطائر الأزغبِ

وفي غمرة ذكرياتها تشكو إليه:

زوّار جاراتي أتوا وانثنوا

وأنت لم تقبل ولم تذهبِ!

فرحت أضني البحث فيمن مضى

أو من أتى عن وجهك الطيبِ

لكل بنت والدٌ أو أخ

إلا أنا، يا ليت يدري أبي.

يزيد من حسرة المرأة المكلومة على فراق والدها عودة آباء بعض صديقاتها وجاراتها بعد غياب سنين طويلة كانت عودتهم ميؤوساً منها؛ بينما هي لا أمل مطلقاً في عودة أبيها الذي ثكلته، فصارت تناجي روحه، وتبحث عنها في وجدانها.

إذا كان رمضان أماً فالعيد أب  يحنو ويدلّل، أب بمجرد حلول رائحته في البيت تعبق الحياة بالبهجة والسكينة والطمأنينة، أب صنع طفولتنا بتقبّله لنا، وأثرى شبابنا بتوجيهه لنا، ثم شاركنا حبّنا لأطفالنا لدرجة تفوق حبّنا لهم، وصار أيضاً ملجأ وملاذاً لهم من غضبنا عليهم وتوبيخنا لهم.

العيد أبٌ يخيط من تعبه راحة أبنائه ونجاحهم، أب يقود مراكب الحياة لنغفو في مقاعدها الخلفية ونستمتع بأحلامنا، أب يسهر ليوّفر لهم مرقداً آمناً، ويدفئهم مهما كانت ارتعاشات روحه وصقيعها.