الاختيار3... صراع الروايات وتزييفها

الاختيار3... صراع الروايات وتزييفها

06 ابريل 2022
+ الخط -

نعرف نحن الفلسطينيين قيمة الرواية وأهميتها، وندرك حجم القهر الذي يصاحب تزييفها. تلك معركة منفصلة خاضها الشعب الفلسطيني قبيل قيام دولة الاحتلال، قالوا إنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ثم كتبوا تاريخاً مزيفاً معلنين قيامها، وتحولوا بعد ذلك لترويج أنها أُم الديمقراطيات محاطة بأكوام من "العرب المتخلفين"، استعملوا الإعلام والسينما للترويج لروايتهم تلك وتثبيتها في المخيال الدولي.

لا ربط مباشراً حقيقةً بين القضية الفلسطينية ومسلسل درامي يُبَثّ في رمضان "شهر الصدق" ويروّج للكذب، لكن الرابط في مسألة حرب الرواية وتزييفها، وهو الأمر ذاته الذي مارسته إسرائيل كنظام استبداد يستقوي على الخصوم المكشوفين أمامه في نسف روايتهم، مستقوية مزهوة بقبضتها العسكرية، وبرعاية الغرب الإمبريالي لها، وهو الأمر الذي يمارسه عسكر مصر حالياً، المزهوون بقوتهم وبطشهم، والمكفولون إسرائيلياً وغربياً وإقليمياً.

فلم يكتفِ ذلك النظام بإبادة خصومه السياسيين، ليذهب أبعد من ذلك بنبش قبور من مات منهم والتنكيل بسيرته عبر تقديم رواية طرف واحد قوي متحكم لصراع غيّر شكل الحقبة الربيعية، تجلّت فيها سادية المستبد، ورغبته في تأليه نفسه، وصنمية عسكرية لا تقيم فرقاً بين الدراما والدبابة.

يظهر المسلسل بكل أسف القاع الذي سقط فيه الفن وهو يحاول مجاملة سياسي، كم السخف الذي يظهر في المسلسل غير مسبوق

بغضّ النظر عن الموقف من الصراع السياسي الذي دارت رحاه في مصر منذ ثورة يناير، إلى انقلاب الثالث من يوليو وما بعده، يبقى المثير للاستغراب في مصر أن حاكمها المتشبث بكرسيه قهراً، يأمر بتنفيذ مسلسل درامي عنه شخصياً، وهو على قيد الحياة، في سابقة لم يفعلها مستبدون سبقوه. والأغرب أن كل إنجازات ذلك الحاكم هي ارتكاب مجزرة، وإبادة خصم سياسي، حدثان يريد منهما صناعة مسلسل، فيما الحقيقة أن سيرته لا تحتمل سوى سطرين: "قام بانقلاب عسكري، ويحكم بالحديد والنار".

هناك من يسأل: ما المشكلة؟ ثمة أفلام أميركية هوليوودية يموّلها البنتاغون تمجد الجيش، لماذا في أميركا الأمر جائز، وفي مصر مدان؟ أقول: صحيح، لكن الفرق أن في أميركا، كما أن من حقك فعل ذلك، فمن حقك أن تنتج في ذات الاستوديوهات أفلاماً تنتقد الجيش الأميركي وتظهر فساده وتعريه، ولن يعتقلك أحد!! في مصر، هل يمكن إنتاج أفلام تتحدث عن فساد الجيش؟ أقل من ذلك، هل يجوز للطرف الآخر "الإخوان" تقديم روايتهم في فيلم ينتج في مدينة الإنتاج الإعلامي؟

إضافة إلى المعالجة الدرامية التي تحاول إضفاء صفة القداسة على حاكم مستبد، يظهر المسلسل بكل أسف القعر الذي سقط فيه الفن، وهو يحاول مجاملة سياسي. وكمّ السخف الذي يظهر في المسلسل غير مسبوق، وتقديس شخص فرّط بجزء من أرضه لبلد آخر، وتخلى عن نيلها، ويجوّع شعبه، أمر مدعاة للاستغراب!

لا أجد تفسيراً لقيام مستبد بإنتاج فيلم عن نفسه، إلا أنه يشعر بأن شعبه في الواقع غير مقتنع به ولا بما أنجزه، فيلجأ إلى الدراما والخيال ليصوغ القصة التي يريدها، معتقداً بشكل مغلوط أننا ما زلنا في زمن الأبيض والأسود والتلفزيونات الحكومية التي تلقن المشاهد ما عليه مشاهدته، وتفترض أنه سيصدق ما سيشاهده. تلك عقلية عسكر الستينيات التي ينتمي السيسي إليها، ويريد استدعاءها. مرحلة كذب حر جسدتها حقبة أحمد سعيد وخطاباته النارية عن النصر في وقت الهزيمة النكراء، وعن مسافة سكة لم يمشِها أحد، وعن نيل سُرق، وأرض بيعت، وشعب يرزح تحت حط الفقر.

C2A96DF8-EEBE-40B9-B295-1C93BEABA19C
محمد أمين
كاتب وإعلامي فلسطيني مقيم في لندن، أكمل الماجستير في الإعلام في جامعة برونل غرب لندن.عمل صحافياً ومنتجاً تلفزيونياً لعدد من البرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية لصالح عدد من القنوات العربية والأجنبية، يكتب حالياً في شؤون الشرق الأوسط ويختص في الشأن الفلسطيني.