الأطلال.. بين الحب والزواج

الأطلال.. بين الحب والزواج

17 يونيو 2023
+ الخط -

أحدهما يضع نظارة طبية، الآخر لا يضع شيئاً. أحدهما توجد هالتان سوداوان حول عينيه، الآخر لا يوجد أيّ شيء. أحدهما تساقط شعره، الآخر ما زال شعره قوياً وكثيفاً. 

طبعاً المتزوّج هو صاحب النظارة الطبية والهالة السوداء والصلعة الواضحة. أما الأعزب، فما زال مثل "آيفون" جديد في علبته، لم تمسسه الأيادي بعد، ولم يتدحرج أرضاً بعد، ولم يسقط في ماسورة المرحاض بعد. 

إنهما صديقان رغم ذلك، وإنه مساء سبت هادئ وجميل ورخي. إنها الساعة الرابعة والنصف بالضبط، من بعد الظهر. 

دخلا باراً فارغاً في تلك الساعة المبكرة، وكانت هناك موسيقى جاز ناعمة. عند البيرة الرابعة، قال الأعزب، وقد انشرحت أساريره وانطلقت: "الحب يا أخي، الحب، إنه أعظم نعمة في الوجود". 

عدّل المتزوج نظارته ولم يقل شيئاً، بل اكتفى بتقطير الكأس داخل حلقه فقط. أضاف الأعزب: "بل يمكن القول حقاً إني أغرمت بها؟ وإلا فما رأيك؟".

رد المتزوج: "أُغرمت بمن؟". 

احتجّ الأعزب: "يبدو أنك تصغي إليّ بأذن واحدة فقط؟ لقد حدثتك عنها قبل قليل فقط، ما بك؟". 

استدرك المتزوج: "آه نعم... لقد حدثتني عنها، تلك الفتاة بائعة الماكياج التي قلت إنّ لها عينين جميلتين و...".

قاطعه الأعزب: "لم أقل بائعة ماكياج بل مديرة مبيعات محل كبير للماكياج". 

قال المتزوج: "حسناً. معك حق، إنها المديرة". ورفع يده مشيراً إلى النادل أن يأتي ليفتح القنينة. 

قال الأعزب، وقد انشرحت أساريره وانطلقت: "الحب يا أخي، الحب، إنه أعظم نعمة في الوجود"، فيما عدّل المتزوج نظارته ولم يقل شيئاً، مكتفياً بتقطير الكأس داخل حلقه فقط

واصل الأعزب وقد بدا كالمخدّر: "إنها جميلة جداً يا أخي، جميلة جداً. منذ شهر، وأنا لا أستطيع الكف عن التفكير فيها ليلاً ونهاراً، ولا الكف عن السهو والتنهد وسماع أم كلثوم... أليس هذا هو الحب بنظرك؟".

نظر المتزوج إلى ساعته، ثمّ عبّ من فم قنينة البيرة هذه المرّة دون حاجة إلى كأس. واصل الأعزب الذي أضافت نشوة البيرة مزيداً من الحماسة إلى نبرة صوته: "الحب هو نحن جميعاً يا عزيزي. الحب هو الكون. الحب هو الله...".

أخرج المتزوّج منديلاً من جيبه، مطرّزاً بشكل كلاسيكي، ومسح جبهته التي ندت بقليل من العرق. مدّ الأعزب يده إلى بيرة المتزوّج، وقال: "دعني أفرغ لك في الكأس".

لم يعترض المتزوّج. يبدو أنه لم يعد قادراً على الاعتراض على أيّ شيء! إنه متزوج منذ عشرين سنة، له ثلاثة أبناء، صبيّان وصبيّة، تجاوز عمره الخمسين، ويرى بصعوبة، حتى إنّ دائرتين سوداوين غلفتا محجريه، كذلك أصبحت صلعته واضحة للعيان كلوح الإشهار، تنتظره مصاريف كثيرة عليه العمل والكدّ طوال النهار كحمار من أجل تلبيتها. بينما بدا الأعزب أنيقاً بثيابه الرياضية الجديدة الأصلية من ماركة "بيما"، وعطره المميّز، وتشذيبه للحيته التي تشبه في دقتها تشذيب عشب ملعب غولف. لا مصاريف تنتظره باستثناء شراء الثياب وعلبة المارلبورو والبيرة. لا زوجة تنتظره مكشرة في البيت، ولا صراخ أطفال بمتطلباتهم الكثيرة والباهظة... إضافة إلى أنه بلغ الثلاثين بالكاد. 

قال الأعزب حالماً: "سألتقيها من جديد بعد غد، وسأطلب يدها ونتزوّج، وستنجب لي أطفالاً. هذا هو ما حلمت به طوال حياتي. لقد عرفت فتيات كثيرات، لكن قلبي خفق لأوّل مرة لها، ولن أضيّع الفرص، سأنشئ برفقتها عائلة سعيدة".

في الوقت الذي قال فيه الشاب هذا الكلام، بدا واضحا كما لو أنّه يخاطب نفسه فقط. لقد انفصل بالكامل عن المكان، كان يرى كلّ كلمة يقولها، يراها ويصدّقها ويعيشها، بينما انفصل المتزوّج بدوره عن المكان غائصاً هو الآخر في حلم مختلف، أن يعود به الزمن إلى شبابه، إلى بداية الثلاثين بالضبط، قبل أن يتزوّج بالتحديد.

أخذ البار يمتلئ رويداً رويداً، مع توالي الكؤوس والقناني. تغيّرت الموسيقى من الجاز إلى الغناء الشعبي، وقال الأعزب: "لقد تحدّثت كثيراً عن الحب، بينما لم تقل أنت شيئاً! هيا يا رجل أريد أن أستفيد من تجربتك".

أم كلثوم تكذب يا حبيبي، إنها كذابة كبيرة، كذابة ذات صوت رائع، كذابة ذات صوت عظيم

بدا أنّ المتزوج قد سكر حقاً، لقد تغيّرت ملامحه من الوجوم إلى الابتسام، ابتسام غير متحكّم فيه بالمرّة، كما لو كان هناك وجه شخص آخر سعيد يبتسم داخل وجهه ويواظب على الابتسام. رفع كأسه في اتجاه الأعزب، وقال: في صحتك أيّها الشاب، وفي صحة الحب والعزوبية والأحلام السخيفة... في صحة زوجتي، وفي صحة هيفاء وهبي، وفي صحة حبيبتك رئيسة قسم الماكياج بالأمم المتحدة. تريد رأيي في الحب؟؟ حسناً، الحب الحقيقي ليس هو الذي تمنحك إياه زوجة، بل هو الذي تمنحه لك امرأة تشفق على حالك بسبب النكد الذي تعيّشك فيه زوجتك حين تطلب منك تطليقها في الحال والزواج بها هي... هذا هو الحب، وهذه هي التضحية الحقيقية في الحب. وبعد أن تطلّق زوجتك وتتزوجها تأتي امرأة أخرى لتشفق عليك من النكد الذي سيسببه لك الحب الجديد... أم كلثوم تكذب يا حبيبي، إنها كذابة كبيرة، كذابة ذات صوت رائع، كذابة ذات صوت عظيم، كذابة ذات صوت بحجم الله.

ظلّ الأعزب يسمع فقط، فاغراً فمه. أنهى المتزوج خطبته فقال الأعزب: "ما رأيك أن نغادر؟ يبدو أنك سكرت". 

قال المتزوج: "كلا.. لماذا نغادر؟؟ أنا لن أسكر حتى وإن شربت البحر الميت... لماذا تريد إعادتي إلى الجحيم؟ منذ لحظة فقط كنت تتحدّث عن الحب، والآن تريد أن نغادر؟ دعنا في هذه الجنة يا رجل".

كانت الموسيقى صاخبة كفاية، وبعض السكارى يرقصون برفقة مومسات تقليديات بدينات، فاضطر المتزوّج إلى الصراخ ليسمعه الأعزب، وقد وقف رافعاً كأسه، وقال: "انهض يا رفيق. دعنا نرقص قليلاً، سنحتفل بحبّك الجديد، أنت شاب مثالي رائع".

علت الموسيقى أكثر داخل البار الصغير الدائري واكتظت الطاولات بالروّاد، ولم يعد بالإمكان العثور على مكان حتى أمام الكونتوار وامتزجت سحابة الدخان متدرجة الزرقة بالإضاءة البرتقالية الخفيفة لتمنح ذلك العالم الزئبقي مسحة لطيفة من الضباب. 

بدا من بعيد المتزوج والأعزب وهما يرقصان سعيدين منشرحين وسط جوقة من الراقصين وسط كتلة الضباب المتعملقة، يظهران حيناً ويختفيان حينا آخر، والكأس في يد المتزوج، بينما يده الأخرى على نظارته، محاذراً أن تسقط ويدوسها الراقصون.

بعد عشر سنوات، عاد الشاب إلى ذات البار، وحيداً هذه المرّة، مغموماً وفوق أنفه نظارة طبية. طلب ويسكي، ومال برأسه مع أغنية أم كلثوم: الأطلال.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.