يقولون إننا مرضى

يقولون إننا مرضى

18 يونيو 2016
(Getty)
+ الخط -
باكراً جداً اكتشفت أنها تعاني من مرض ما... مرض نفسي ما. اكتشفت ذلك، عندما فقدت قدرتها على التواصل مع ما يحصل حولها. فبينما كان الجميع حولها يصرخ على الجميع، كانت تختفي الأصوات. تدور هي في أرضها وتنظر إلى هؤلاء الذين يصرخون، فلا ترى سوى شفاه تتحرك من دون صوت. كان زرّ "الميوت" يشتغل بشكل تلقائي في رأسها. كانت في السادسة او السابعة ربما. 
في العاشرة، وبينما كان الصراخ حولها مستمرّاً، كان أخوها يخطفها من وسط المشاكل، ويختفي معها تحت السرير، ويقفل أذنيها ويدندن لها أغنية فرنسية تقول إن "لا شيء يوقف السعادة، فالسعادة تفوز دائماً". لم يكن يعرف أنها لا تسمع. هي في مكان آخر. صوته فقط كان يدخل رأسها فتردد معه "السعادة تفوز دائماً"...

****
في المراهقة، بدأ الاضطراب النفسي يأخذ شكلاً وأسماء. لم يكن شيئاً يمرّ بسهولة. الكلمة التي تقال أمامها، تحيك حولها ألف أسطورة وقصة ومؤامرة. كلمات عشوائية لا يقصد بها شيء محدد، كانت تبقيها ساهرة لساعات الصباح، تتخيّل ان من قالها يمرّر لها رسالة.. تربط الكلمة بألف حدث، حصل حقيقة أو حصل في مخيلتها فقط. بات الهواء حولها يقلّ، تختنق فجأة، تشعر أن قلبها يطير منها، روحها تذهب بعيداً، روح ثقيلة لا تعرف كيف وجدت القدرة على الخروج من جسدها.. دقائق قليلة وتهدأ.


في المراهقة نفسها، قرّرت ان تجرّب كل شيء، كل شيء: السفر، الجنس العشوائي، العلاقات المضطربة، المخدرات، الهروب من المدرسة، النوم على سطح مبنى لا تعرفه.. كل شيء. في كل يوم، كانت تنتقم من تلك الأيام التي كانت تختبئ فيها تحت السرير، من تلك اللحظات التي فقدت فيها قدرتها على سماع ما يقال أمامها. ثمّ نامت، نامت طويلا، واستيقظت لتجد ان كل شيء قد انتهى. أو هكذا ظنت.



كبرت، وبات لاضطرابها تفسير، تعاني من "نوبات هلع" PANIC Attacks يقول معالجها. ينقبض قلبها فجأة، تعلم ان شيئاً سيئاً يحصل في هذه الأثناء، حتى لو لم تكن تراه، هذه ليست نوبات هلع، هذا إحساسها الذي لم يخيبها ولا مرة واحدة، طيلة ثلاثة عقود. في كل مرة تشعر ان يداً تمسك قلبها وتعصره، كانت تتمنى ان لا يصدق حدسها، لكنه لم يخيبها. ثابت في موعده، وخيباته، في كل مرة: في العمل، في الحب، في الصداقات.. كانت ترى الهزيمة قبل وقوعها. هذه ليست نوبات هلع، هذا حدسها.



طوبى لهؤلاء الذين تنقبض قلوبهم فجأة ومن دون سبب، لهؤلاء الذين يمشون ساعتين ونصفاً على الكورنيش من دون ان ينتبهوا أن الوقت قد مرّ، لأن روؤسهم مشغولة بتفاصيل غير مرئية، لهؤلاء الذين يحبون وينتظرون الخيبة حتى في لحظات نشوة الغرام، لهؤلاء الذين لا يريدون من الحياة أكثر من فتحة صغيرة تدخل الهواء إلى القلب المنقبض، ولهؤلاء الذين لا يتوقفون عن الحب رغم الهلع ورغم نوباته. لهؤلاء حب كثير، وطمأنينة ستأتي، وقلب يهرب من داخل الجسد إلى أماكن جميلة، فيها هواء نظيف، وموسيقى جميلة، ويد خفيفة تمسكه وتطبطب عليه، وتراقصه. 




دلالات

المساهمون