وداعاً للثورات

وداعاً للثورات

02 يناير 2017
+ الخط -

وضعت الثورات أوزارها، أخذت كل ما في القلب من أحلام وطموحات وروح ثورية. أخذت كل تلك الأماني العريضة التي علقناها ذات يوم على شجرة أثمرت في 2011.

يومها اعتقدنا أن غرس السنوات الطوال قد آن أوان ثمره. يومها كانت الروح وثابة، وهي ترى تلك الجموع تغامر بأعز ما تملك، حياتها؛ وهي تردد بعنفوان غير مسبوق، ارحل، لكل طغاتنا، لكل فراعنتنا، لكل من جثموا سنوات طوالاً على صدورنا.

يومها، حلقت ياسمينة من أرض الزيتون، لتحط في قاهرة المعز، تستذكر فيها روح أولئك الذين كانوا، قبل أن تداعب مخيلة أحفاد عمر المختار، تسرد على مسامع من لم يسمع سيرته الأولى، لترتمي فوق جبل يمني أشم، تسأله، إن كان أحفاد بلقيس ما زالوا هنا. قبل أن يحط بها الترحال على أعلى قمة في جبل قاسيون، كانت عيونها ذات يوم تراقب من بعيد، ما زال أهل الشام همو... همو؟

فهبت الجموع تدافع الجموع. كسروا كل حد ومستحيل. تجاوزوا سنوات طويلة من الخوف وعقدته؛ فمروا فوق جبل السنوات المتراكم، جبل الخوف والصمت الذي كثيراً ما ازدهر في ظله الخوف. رفعوا أصواتهم عالياً، هتفت الحناجر، وكانت الأكف تصافح الأكف. وبصوت واحد كانت ثورتنا وربيعنا، قبل أن يشنقوه على مقصلة أعدت له بتأن وترتيب.

كلما مررت على ذكريات السنوات التي تلت 2011 أكاد أجن. لا أصدق، أن كل ذلك مر معنا. أكاد لا أصدق وأنا أقرأ وأتابع أن الثورة السورية وضعت أوزارها باتفاق روسي تركي إيراني، أباح للسفاح أن يبقى، أن يكمل فترته الرئاسية، على أمل واحد فقط، أن تتوقف آلة الموت عن حصد مزيد من الضحايا.

أكاد لا أصدق أن مصرنا انهزمت ثورتها، وصار جل شعبها يتمنى أن يعود حسني مبارك الذي ضجت فوق ميدان قاهرتها الأصوات التي تطالب برحيله.

لا يمكن أن أقبل أو أتخيل أن يكون هناك ليبي واحد اليوم يقول ليتنا لم نخرج بثورتنا، ليتنا لم نطالب برحيل القذافي، وكذا الحال في اليمن.

سيتوقف التاريخ عند ثوراتنا، سيسأل لماذا فشلت؟ سيحاول أن يجد إجابة يقدمها لمن سيأتي بعدنا، لمن سيقرأ تاريخنا؛ تاريخ أمة عاشت لعقود طويلة تحت كذبة الأنظمة الوطنية، وعندما قررت أن تخرج على تلك الأنظمة التي لا تحمل من الوطنية سوى الاسم المخصص للمتاجرة، انتكست، قمعت، قتلت، شردت، ولسان حالها يقول لماذا خرجنا؟

سيتوقف التاريخ عند ثوراتنا، سيردد طويلا عبارة تقول: "الثورة والثورة المضادة". قد ينجح أفضل منا اليوم في إيجاد تفسير للثورة المضادة، خاصة أن قلم هذا التاريخ سيكتب بعيداً عن زمننا وبتجرد قد لا نجده اليوم في أقلامنا. سيقول إن الثورة المضادة نجحت في القضاء على الثورة، ولكن لماذا نجحت الثورة المضادة؟

سيقول التاريخ، لأنه وببساطة جداً، أميركا لم تكن تريد للثورات العربية أن تنجح، لأن إسرائيل التي تدير أميركا، لم تشأ أن تنجح هذه الثورات. لأن أميركا وإسرائيل شعرا بغضب شديد على هذه الشعوب التي تطالب بالحرية.

لأن إسرائيل تدرك أن وجودها مرتبط بوجود الأنظمة الديكتاتورية التي ضمنت لهذا الكيان وجوده طيلة الستين عاما الماضية، وهو يمني النفس أن يبقى لمئة أخرى. والثورات ستعني أن الشعوب الثائرة هي من سيمسك بزمام القيادة، والشعوب الثائرة لن ترضى بوجود كيان غاصب إلى جوارها، فتقدمت أميركا لتكمل الدور عبر وكلائها، وما أكثرهم من وكلاء.

سيكتب التاريخ أن أميركا التي كانت تدير العالم كشركة، وجدت حتى بين الثوريين وكلاء لها، وكلاء؟ عفوا عملاء، وجدت من يعبد دولارها أكثر من الله، ومن يمجد بيتها الأبيض أكثر من بيت الله الحرام.


ستحتار حروف التاريخ وهي تروي للأجيال كيف أن روسيا التي قتلت من السوريين الآلاف عبر طيرانها الذي ساند نظام الأسد تحولت بين ليلة وضحاها الى طرف ضامن لاتفاق وقف إطلاق النار، ونشرت قواتها الصديقة في أرجاء حلب.

أما إيران، آه من تلك الإيران؛ فسيكون التاريخ وقتها قد وجد العديد من الإجابات على دورها القذر ضد العرب عموما والعراق وسورية واليمن تحديدا. سيكتب التاريخ أنها كانت أداة أخرى من أدوات الثورة المضادة؛ فهي كانت تريد استعادة فارسها وكسراها الذي هزمه المسلمون في القادسية، فوجدت فيها أميركا حصان طروادة جديداً، قتلت بها من تريد وشردت من خلالها من تريد، قبل أن تنقلب عليها، وتبدأ بتقليم أظافرها.

سيقول التاريخ للأجيال المقبلة أن من يريد الثورة عليه أن يتحزم بشعبه ويؤمن بقدراته. عليه أن يضرب رأس الأفعى لا ذيلها، وثورات العرب كانت تتعامل مع الذيل، ترى فيه رأسا، تعتقد أنها بضربه ستتخلص من طواغيتها، وإذا بها تكتشف بعد أنهار من الدموع والدماء أنها كانت تكثر الضرب بالذيل، الذيل فحسب.

لن يلعننا التاريخ لأننا خرجنا بثورات فشلت، أو بالأحرى أُفشلت. على العكس. سيقول إننا كنا أمة، مرضت وحاولت أن تتعافى، فقُتلت ودُمرت وشُردت، ولكنها بقيت عيناً تقاوم مخرز الألم، وهذا قدرها.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...

مدونات أخرى