واقع غير وردي

واقع غير وردي

11 مارس 2019
+ الخط -
عبّرت شخصيات نسائية كثيرة، مثقفة ومتحققة ومتميزة أكاديمياً، عن تبرّمها وضيق ذرعها بالطقوس المتبعة في يوم المرأة العالمي التي لا تخلو من استثمارٍ مبتذل، وشعارات جوفاء مملة، مفرغة من مضامينها، ومنفصلة عن واقع المرأة غير الوردي. يكرّرها المجموع، في الموعد نفسه من كل عام، ببلاهة ومن دون أدنى حد من القدرة على الإقناع بجدّية ما يطرح، ما يؤكد، في أحيان كثيرة، النظرة الفوقية والمعادية التي تُضمرها المجتمعات العربية للمرأة، على الرغم من كل محاولات التجمّل والتزلف والمظاهر الكاذبة المرافقة لهذه المناسبة التي خرجت عن سياقها المرتبط بذكرى وفاة عاملاتٍ مكافحاتٍ، قضين حرقاً في أحد المصانع، من جرّاء ظروف عملٍ مجحفةٍ، غير إنسانية. ولا تراعي، بأي حال، حقوق المرأة العاملة. تحولت القصة النبيلة الحزينة، التي كانت بمثابة الشرارة التي دفعت نسوةٌ أعمارهن في سبيلها إلى صرعةٍ وموضة، وإلى فرصةٍ للتندّر والسخرية والتنافس في إطلاق العبارات السطحية المتظارفة السمجة، من وزن "الك يوم يا ظالمة"، و"كل عام وكيدكن عظيم"، وغيرها من العبارات الذكورية المتحيّزة ضد المرأة، التي تنظر بتوجس وريبة وحذر إلى أي امرأةٍ حققت تميّزاً ما.
ولا يعفي، في هذا السياق، أصحاب النيات الحسنة من جماعة الكليشيهات الجاهزة البائسة المثيرة للغثيان، من طراز المرأة نصف المجتمع، والمرأة أم وأخت وزوجة، وهي أمانة في أعناقنا، علينا أن لا نفرّط بها، فإن طروحاتهم تنطوي على حسٍّ عالٍ بالتمييز، والفوقية، والوصاية على هذا الكائن المسكين الذي يرونه، في أعماقهم، ضعيفاً مهزوماً هشّاً، قليل الحيلة، غير قادر على تحقيق وجوده من دون توفر اليد العطوف الحامية الحانية. في واقع الأمر، لدى تلك النخب النسائية المثقفة المعترضة على هذا الأوكازيون السنوي كل الحق في رفض الاستثمار السياسي والاجتماعي، الدائر على المنابر للمناسبة، من دون أن نلمس أي جديةٍ من صناع القرار في النهوض بحال المرأة، وتحقيق شروط حياة أفضل لها في كل المناحي، وتحقيق شروط التكافؤ والعدالة، من حيث فرص التعليم والعمل والتجارة، وتقلّد المناصب العامة، وتغيير الصورة النمطية التي يتبناها كثيرون، وتجعل من المرأة أقل أحقية في كل شيء، بدءاً من ميراثها الشخصي الذي يتم الاستيلاء عليه، بذريعة حفظ إرث العائلة من تدخل الأغراب.
ولشديد الأسف، لن يتم لنا هذا، وسيبقى واقع المرأة مراوحاً مكانه، طالما أن الرجل العربي ما زال يتعامل معها باعتبارها ملكية خاصة، سواء كانت ابنته أو شقيقته أو زوجته أو حتى والدته. وهو يعتقد، (ويتصرف على هذا الأساس) أنه صاحب الحق في تقرير مصيرها، وفي التحكّم بمسار حياتها، باعتبارها كائناً قاصراً ستبقى، في كل مراحل عمرها، تحيا في ظله. وهي بحاجةٍ ماسّةٍ إلى رقابة وحراسة مشدّدة، لكون سمعته (وشرفه) مرتبطة بجسدها، بل مقتصرة عليه، وهو القنبلة الموقوتة التي تشكل الرعب الأكبر للرجل العربي، لكون الحريم المحسوبات عليه مشروع عار متحرّك. عليه أن يظل متيقظاً طوال الوقت، من أجل حمايته. واقع محزن يعيشه أبناء هذه الثقافة الذكورية الملتبسة، تدفع النساء ثمنه ظلماً وتمييزاً وحرماناً طوال أيام السنة، ليتسابق الجميع، في يوم الثامن من مارس/ آذار، على دلق عباراتٍ دبقة لا معنى لها، عن احترام المرأة، والإقرار بدورها. ولا ينبغي، من باب الإنصاف، استثناء نماذج نسائية مؤسفة، تتبنّى النهج الذكوري، الجاهل ذاته.
في شريطٍ بثّه موقع إلكتروني جادّ، بمناسبة يوم المرأة العالمي، عن هذا النوع من النساء، سوف يثير صدمة المتلقي تماماً من كمّ الجهل والانغلاق والتبعية الذي عبّرت عنه نساءٌ، المفترض أنهن مؤثراتٌ في حقول الفن والمعرفة. وذلك كله في إطار محاباة الفكر السائد، وصنّاع القرار الذكور، في خيانةٍ غير مشروعة للأنوثة التي تحوّلت، عبر عصور من الجهل والقمع والتخلف، إلى لعنة، وتهمةٍ تحاول بعضهن التنصّل منها، بكل ما أوتين من أدوات الغباء!
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.