هل تنسف أَزمة القرم بيئة إسرائيل الاستراتيجية؟

هل تنسف أَزمة القرم بيئة إسرائيل الاستراتيجية؟

13 ابريل 2014

جنود روس في أوكرانيا (أرشيفية)

+ الخط -

تستنفر محافل التقدير الاستراتيجي في إسرائيل محاولة قراءة مجمل تداعيات الخلاف، الذي تفجر بين روسيا والغرب، عقب السيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم، ورصد انعكاساتها الاستراتيجية على الدولة العبرية. وعلى الرغم من التزام معظم الوزراء، وكبار الموظفين، بالتعليمات التي أصدرها رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، عدم التعبير عن مواقف من الأزمة، خشية استفزاز أحد طرفي الخلاف، أو كليهما، فإن هناك شبه إجماع بين الأوساط السياسية والنخب المسؤولة عن بلورة التقديرات الاستراتيجية في تل أبيب أن أزمة القرم أفضت، بالفعل، إلى المسِّ بشكل خطيرٍ بالبيئة الاستراتيجية لإسرائيل.

التهديد الإيراني أَولاً
ولمّا كانت إسرائيل تجاهر باعتبار البرنامج النووي الإيراني "التهديد الوجودي" الوحيد الذي تواجهه حالياً، فإن النخب الإسرائيلية قاربت أزمة القرم، من حيث استشراف تأثيراتها على الموقف العالمي من البرنامج. وكان يوفال شطينتس، وزير المخابرات والعلاقات الدولية، الوحيد الذي خرق تعليمات نتنياهو، وحذّر من أن الخلاف بين روسيا والغرب، والذي قد يستحيل إلى صراعٍ، ينسف أسس النظام العالمي، قد يوفر الظروف لإيران لمواصلة برنامجها النووي للأغراض العسكرية، في ظروف "مثالية" (الإذاعة العبرية، 7 مارس/آذار). وبدا عاموس جلبوع، (قائد لواء الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية سابقاً) أكثر وضوحاً في تسليط الضوء على "مخاطر" أزمة القرم، عندما حذّر من أن العقوبات، التي يفرضها الغرب على موسكو قد تفضي إلى تشكيل "حلف المحاصرين" الذي سيجمع إيران وروسيا، ويدفع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى إحداث صدعٍ في الموقف الدولي، المطالب بفرض قيودٍ كبيرةٍ على المشروع النووي الإيراني، بحيث يطرح شروطاً أكثر مرونة تجاه إيران، نكاية في الغرب (معاريف،17 مارس/آذار 2014).
ويجزم رئيس دائرة البحوث الاستراتيجية في مركز "هرتسليا متعدد الاتجاهات"، إليكس مينتس، أن إسرائيل هي "المتضررة الرئيس من أزمة القرم"، ويتوقع أن تفضي تداعياتها إلى انهيار نظام العقوبات الدولية المفروض على إيران، والذي يرى أنه نجح في تقليص هامش المناورة أمام الإيرانيين. ويجد مينتس، في مقال نشره في موقع "وللا" (25 مارس/آذار 2014) أن الصراع المتفجر بين روسيا والغرب يؤذن بوضع حد للتعاون بين الغرب وروسيا، والذي سمح بحل أزماتٍ عالمية كثيرة، وهو تعاون، حققت إسرائيل، حسبه، مكاسب استراتيجية هائلة منه، ولولاه لما تسنّى تدشين نظام العقوبات، الذي قلص هامش المناورة أمام القيادة الإيرانية، إلى درجة أنها خشت على مستقبل نظام الحكم، فسمحت بانتخاب رئيس "معتدل"، وبدت مستعدةً لفرض قيودٍ على برنامجها النووي. ولا يفوّت، مينتس، التذكير بأنه لولا التعاون، لما تم الشروع في تصفية مخزون السلاح الكيماوي السوري، والذي مثّل على مدى عقود معضلة استراتيجية لإسرائيل.
ويجزم بأنه، عقب أزمة القرم، سيستحيل التعاون بين روسيا والغرب إلى خصومةٍ، وإلى صراعٍ يجعل النظام العالمي يقوم على أساس "لعبة محصلتها صفر"، حيث يصمم كل من طرفي الصراع خطواته، فتؤدي إلى أقصى ضرر بالطرف الآخر.
ولا يستبعد مينتس أن يتجه الروس، ليس فقط إلى تجاوز نظام العقوبات ضد إيران، بل يتوقع، أيضاً، أن يبادروا إلى التوقيع على اتفاقات تجارة مع طهران، تجعل دولاً أخرى تقتفي آثارهم.
وهناك في إسرائيل من يرى أن أزمة القرم، لم تمنح الإيرانيين فرصاً لدى روسيا فقط، بل قد تقربهم من الأوروبيين، أيضاً، إلى درجةٍ تسهم في توفير بيئةٍ حاضنةٍ لمشروعهم النووي. وحسب أفيحاي شنير، أحد أبرز المحللين الاقتصاديين في إسرائيل، فإن حقيقة اعتماد أوروبا حالياً على روسيا في توفير 40% من احتياجاتها من الغاز، و25% من احتياجاتها من النفط، سيدفعها للبحث عن مصادر طاقة أخرى، في حال أدى تفاقم الصراع إلى توقف هذه الإمدادات، بقرارٍ روسي أو أوروبي.
وفي مقال نشرته صحيفة "غلوبس" الاقتصادية (31 مارس آذار 2014)، يوضح شنير، أن إيران الدولة الوحيدة القادرة على ملء الفراغ الذي يتركه الروس، بحيث سيكون بإمكانها تلبية حاجة الغرب من الغاز والنفط. مستبعداً أن تتجه السعودية إلى زيادة إنتاجها لتلبية الحاجة الأوروبية. ويرى أن الأوروبيين قد يكونون معنيين، حالياً، بالإسراع في إنجاز اتفاق مع طهران، في شأن برنامجها النووي، لضمان الاعتماد على مصادر الطاقة الإيرانية، مع كل ما يتطلبه الأمر من إبداء المرونة التي تضمن توصل المحادثات، الجارية حالياً في جنيف، إلى اتفاق يضمن بقاء إيران دولةً على حافة قدرات نووية عسكرية.



تركيا .. ومحمود عباس
وهناك مصدر قلقٍ آخر يقضُّ مضاجع الإسرائيليين، وهو تعاظم مكانة تركيا لدى الغرب، عقب تفجر أزمة القرم. وحسب رئيس قسم الدراسات الشرقية في جامعة "أرئيل"، إليكس بلاو، فإن حقيقة أن تركيا هي الدولة الوحيدة التي تمثل منطقة فاصلة بين الروس والبحر الأبيض المتوسط عزز مكانتها الإستراتيجية لدى حلف الناتو. وفي مقال نشره في صحيفة "يسرائيل هيوم" (29 مارس آذار 2014)، يرى بلاو أن إدراك رئيس الوزراء التركي، طيب رجب أردوغان، حقيقة تعاظم مكانة بلاده "سيُغريه" بمواصلة تحدي إسرائيل، معتبراً أن قدرة الإدارة الأميركية على التأثير على نمط السلوك التركي تجاه إسرائيل تراجعت. ويرى أن مصلحة الولايات المتحدة تقتضي الحفاظ على علاقاتٍ وثيقةٍ مع الأتراك، لاستنفاذ الطاقة الكامنة في هذه العلاقات، أو على الأقل، لمنع إلحاق مزيدٍ من التدهور في مكانة الولايات المتحدة العالمية. ولا يثير أحداً في إسرائيل حديث وزير الخارجية التركي، أحمد داود أغلو، عن قرب تسوية الخلاف التركي الإسرائيلي في شأن التعويضات للأتراك الذين قتلوا، عندما هاجم الجيش الإسرائيلي سفينة مرمرة التي شاركت في أسطول الحرية في 31-5-2010. وتؤكد محافل رسمية في تل أبيب أن الفوز الكبير الذي حققه، أردوغان، في الانتخابات المحلية، وإحساسه بتعاظم مكانة تركيا الجيواستراتيجية سيدفعه نحو تبنّي سياسات تمس بالمصالح الإسرائيلية.
في الوقت نفسه، يرى الإسرائيليون أن أزمة القرم تقلص من قدرتهم على مواجهة قرار الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، التوجه للأمم المتحدة، حيث يسود اعتقاد في إسرائيل بأن الروس سيبدون تصميماً أكبر في دعم التوجه الفلسطيني للانضمام للمؤسسات الدولية، ضمن محاولة الكرملين توسيع دائرة الحلفاء لروسيا. ويخشون، في تل أبيب، أن تفضي الأزمة الاقتصادية التي قد تواجهها موسكو، عقب العقوبات الغربية، إلى إدخال تسهيلاتٍ على سياسة بيع السلاح الروسي، بحيث يبدي بوتين استعداده لبيع منظومات سلاح متطورةٍ جداً، لدولٍ ليس من مصلحة، تل أبيب، حصولها على هذا السلاح. وتتوقع دراسة نشرها مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، وأعدها الدبلوماسي السابق، عوديد عيران، والباحث تسفي مغين، أن تعود روسيا إلى "دبلوماسية السلاح"، والتي كان الاتحاد السوفييتي ينتهجها في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته.
أكثر ما يثير مخاوف الإسرائيليين أن تذهب جهودٌ بذلها نتنياهو، وأركان حكومته، لتعزيز العلاقات مع موسكو، في السنوات العشر الماضية، أدراج الرياح، حيث كان نتيناهو يتباهى بنجاحه في إقناع بوتين بإرساء شراكةٍ استراتيجيةٍ في مواجهة "القوى الإسلامية المتطرفة". ويرون في إسرائيل أنه في حال تفاقم الصراع بين روسيا والغرب، فإن إسرائيل ستكون مطالبةً بإبداء موقفٍ مما يجري، مع العلم أنه على الرغم من أهمية العلاقة مع موسكو، لا يوجد بديل عن العلاقة مع واشنطن.

حكم العسكر في مصر
إزاء المخاطر التي تمت الإشارة إليها آنفاً، تكمن الفرصة الوحيدة التي تراها إسرائيل في أزمة القرم في إمكانية، أن تدفع إلى حدوث تحولٍ جوهريٍّ في موقف الغرب من سلطة الجنرالات في مصر. وكما يقول وزير الدفاع الأسبق، بنيامين بن إليعازر، فإن حرص الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، على تثبيت مكتسباته في الشرق الأوسط، قد يدفعه إلى التخلي عن كل تحفظاته في شأن حكم السلطة الحالية في القاهرة، ويعلن تأييداً قوياً وحازماً لها، وهذا بحد ذاته يمثل مصلحة استراتيجيةً من الطراز الأول لإسرائيل (الإذاعة العبرية، 28 مارس/آذار 2014). وعلى الرغم من أن الموقف الأميركي والأوروبي لا يؤثر سلباً على سلطة العسكر في مصر، إلا أن إسرائيل ترى إنجاح حكم هؤلاء مهم جداً لتحسين بيئتها الإقليمية، لأنه سيعزز "محور الاعتدال" العربي، بشكلٍ يسمح بتحويل التقاء المصالح بين الطرفين إلى شراكة استراتيجية مثمرة، كما يقول الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية، عاموس يادلين.
قد تكون إسرائيل تبالغ في مخاوفها من تداعيات أزمة القرم، لكن الجدل في دوائرها وأوساطها بشأن الأزمة يكشف عن حقيقةٍ صادمة للعرب، فالدول ذات المشاريع الكبرى، هي التي تستفيد، أو تتضرر، من التحولات الكبرى في العالم، وهذه ليست الحالة مع العرب.