نشرة العيد من عمّان


نشرة العيد من عمّان


03 اغسطس 2014

أردنيون يتظاهرون بعد صلاة الفطر تضامناً مع غزة (يوليو/2014/الأناضول)

+ الخط -

أزمة خانقة في شوارع العاصمة الأردنية، التي كانت، ذات يوم ليس بعيداً، مدينة وادعة، يعرف ناسها بعضهم، يتبادلون التحية من بعيد، حين يلتقون مصادفةً، يحرصون على نظافة شوارعهم ومداخل بيوتهم العتيقة، التي يتسلق الياسمين أسوارها، لطالما وصفت بالمدينة الرصينة المحافظة، لا تحب السهر والصخب، تميل إلى السكون والهدوء اللائق بالمتقاعدين والمسنين.

السيارات متلاصقة على امتداد الشوارع الرئيسية، بشكل يبعث على الحنق. سائقون من الجنسين يتميزون بالفظاظة والنزق، تحركهم أرواح عدائية تنافسية مؤسفة، بحيث أصبح تبادل الشتائم، من العيار الثقيل فيما بينهم، أمراً غير مستهجن، بل أسلوب تخاطب متفق عليه. يتزاحم المشاة بدورهم على الأرصفة المتهالكة.

المقاهي مكتظة حتى آخرها، سحب الدخان تحولها إلى ما يشبه غرزة الحشيش في فيلم ثرثرة فوق النيل، شبان وصبايا ينفثون أنفاس الأرجيلة باسترخاء تام واطمئنان مريب. المطاعم، على كثرتها واختلاف درجاتها السياحية، أكثر اكتظاظاً.

مطعم القدس في قلب البلد يتكفل بالعزاب المحرومين من طعام البيوت الفائق الدسم، وبالعائلات الهاربة من الروتين المنزلي، الراغبة في التغيير. طاولات مطعم هاشم الأكثر شهرة تصل إلى جنبات الشارع، تتوزع عليها حبات الفلافل الساخنة، وصحون الحمص والفول، وأرغفة الخبر الخارجة تواً من الفرن، فيما صوت أم كلثوم ينطلق عالياً، وهي تغني عن الحبيب الذي رق!

على بعد خطوات، يصطف الناس طوابير أمام كنافة حبيبة، المحل الأكثر عراقة، وفي زاوية مظلمة من الشارع ذاته، يربض بصمت بائع الصبار بعربته المتقشفة، إلا من كومة حبات الصبار، يقشرها متجاهلاً جراحه، من أجل زبائن غير مستعدين لتحمل وخزات الشوك.

سوريون يتجولون بأعين زائغة، يطاردون رائحة الشام الهاربة في الأزقة والحارات العتيقة، يدارون الحنين بالتجول في أسواق البلد، وفي المطاعم والمقاهي السورية، التي اكتسحت عمّان، معلنة عن تقديم أشهى الأطباق: كبة مشوية، سفيحة أرمنية. تنبعث رائحة السمك المشوي من مطاعم المسقوف، التي تكتظ بالعراقيين، أصحاب الخبرة الأوسع في حقل الشتات.

تفوح من أرجاء البيوت رائحة القهوة المرة المعطرة بالهيل، تتصدر حلويات العيد غرف الاستقبال، صغار بثياب جديدة يحصون عيدياتهم بفرح كبير، يبتاعون الألعاب النارية، يتنافسون على إطلاقها في فضاء الحارات، غير عابئين بتبرم الكبار، المنهمكين في طقوس العيد.

تدور الأحاديث صاخبة في الصالونات: نساء يتحدثن بقلق عن مصير شمس قادين، خليلة الخديوي في مسلسل سرايا عابدين، يعبرن عن لهفتهن لمتابعة الجزء الثاني. يهمس رجل لضيوفه، وهو يتناول القهوة من يد زوجته المتوارية خلف حجاب، يا جماعة: داعش تغطي أثداء البقر خوفاً على رجالها من الفتنه معقول! داعش ذاتها التي رجمت النساء، وهجرت المسيحين وصلبت المفطرين من الفتيان، وقد صرح كبيرهم، أن الله لم يأمرهم بقتال بني إسرائيل! لعن الله التطرف.

يطل محمد عساف، من شاشة إم بي سي، التي واصلت احتفالاتها الباذخة بالعيد السعيد، ولم تغفل، في الوقت نفسه، بث دعايات التسول المنظم باسم السوريين والغزاويين، تطغى على وجه عساف ملامح حزينة، ونبرات صوت مجرحة، يطل على جمهوره الذي عقد الدبكات مراراً على أنغام أغنيته "علّي الكوفيه ولولح بيها"، يقول بلهجة حزينة صلوا لغزة!

على شاشة "بي بي سي"، مشهد فادح، يظهر أفراد عائلة غزاوية تبحث بهلع عن أصغر الأبناء بين أنقاض البيت، الذي كان عامراً بالحياة. ترصد الكاميرا صوت الأم مرتجفاً مراوحاً بين الأسى والرجاء. شاب غزاوي يكتب على جداره على "فيسبوك"، "الدمار يحيط ببيتنا، اختنقنا من الغبار"، أنباء رعب عن أطفال تقصف أعمارهم الغضة من على المراجيح.

تبكي امرأة عمّانية تسيل دموعها غزيرة، تكتب "بوستاً" على صفحتها، تعبر به عن ألمها وتأثرها بأحزان أهل غزة المغدورين، تفرح بعدد اللايكات التي حصدتها. تتوجه إلى المطبخ، تنهمك في إعداد وجبة العيد. يتردد صوت مذيعة بنبرة بالغة الغنج:"ينعاد عليكن".

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.