مِنْ جورج واشنطن إلى ترامب

مِنْ جورج واشنطن إلى ترامب

03 يونيو 2016

جورج واشنطن ودونالد ترامب (Getty)

+ الخط -
(1)
تنادى عقلاء كبار في الولايات المتحدة، وبضمائر حيّة، لمعارضة ترشيح دونالد ترامب عن الحزب الجمهوريّ، منافساً على منصب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية. وأنا أكتب مقالي هذا، لعلّ مئاتٍ، وربّما بلغوا الآلاف الآن، بادروا بالتوقيع على بيانٍ عام، يبدون فيه الرأي في ترشيح رجل أميركي، وحتى قبيل اعتماده رسمياً من حزبه، معلنين عدم كفاءته للمنافسة على منصب الرئاسة. ذلك نهج جديد ومبتكر، لم تعهده الممارسة السياسية في الولايات المتحدة.
ينص النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة على انتخاب الرئيس الأميركي، عبر تصفياتٍ غير مباشرة، تتمّ في الولايات، ووفق نظام فيدرالي متبع منذ قرابة الثلاثة قرون. ولهذا النظام تعقيدات، أطلت في أثناء الصراع المُحتدم بين اختيار المتنافسين من الحزبين الكبيرين على منصب الرئاسة الأميركية هذا العام.
(2)
لعلّ أول ما يؤخذ على أسلوب اختيار المتنافسين من الحزبين الرئيسيين، الديمقراطي والجمهوري، على عقلانية تطبيقه، هو حرمان المواطن الأميركي الفرد من الإدلاء بصوته مباشرة، ليختار من يرتضيه رئيساً لبلاده. وعلى الرغم من رسوخ الانتخاب غير المباشر عقوداً طويلة، يظلّ إحساس المواطن الأميركي قائماً بأنه لا يدلي بصوته في المرشح المحدّد، بل ينوب عنه نواب آخرون، يمثلون ولايته في ذلك النظام الفيدرالي.
ثاني الأمرين هو اقتصار الساحة السياسية في الولايات المتحدة على حزبين وحيدين حصراً، ما يضفي على التجربة الأميركية مسحةً من الجمود، لا تتسق ومواصفات أبواب الديمقراطية المشرعة لاعتماد كيانات سياسية، تتنفس أجواء الحرية وتباين الآراء واختلاف التوجّهات. ومن ثوابت الوحدة والتماسك في الولايات المتحدة ذلك التنوع الباذخ في كل ولاياتها، وذلك التعايش بين الثقافات المحلية في بلادٍ هي قارّة بمقاييس الجغرافيا، غير أن ذلك الواقع الاجتماعي والثقافي المتعدّد لم يفرز في الساحة السياسية تنوّعاً في الكيانات السياسية، بل اكتفى بحزبين.
(3)
ترشيح دونالد ترامب، وهو لم يكتسب خبرة تذكر في السياسة، وثمّة شكوك كثيرة بشأن ثرواته، ليكون الممثل الأوحد للحزب الجمهوريّ الطامع في الوصول إلى البيت الأبيض، أمر يلفت النظر إلى خللٍ ما في الممارسات الانتخابية. ويلفت الانتباه أيضاً إصدار عددٍ مُعتبرٍ من المثقفين الأميركيين ذلك البيان في 24 مايو/ أيار 2016، يندّدون فيه بترشيح الرّجل، ويعدّدون نواقصه، وينادون بقطع الطريق عليه، حتى لا يصل إلى البيت الأبيض.
يقول بيان المثقفين الموجّه إلى الشعب الأميركي العريض إنّ التاريخ الأميركي الرّاسخ في دعم التعايش بين الأقليات والثقافات المتنوعة، لا يناسبه مرشح يؤجّج الاختلاف بين مكوّنات المجتمع الأميركي، ويعتمد لغة تعادي الأقليات، ويعكس جهلاً فادحاً بمقوّمات المجتمع وتوجّهاته الخارجية. وعبّر أصحاب البيان من المثقفين، ومنهم الكاتب والروائي الأميركي ستيفن كينج، عن اقتناعهم بأن الكذب وقلة الخبرات والديماغوجية هي ممّا يمهّد لإحياء نمطٍ من الحكم الاستبدادي البغيض. ولأنهم يؤمنون أن الصدق والمعرفة والخبرة والمرونة أمور لازمة لكل من يتطلع لقيادة الولايات المتحدة، وأن اكتناز المال وقلة الخبرة وامتلاك لسان مستفز، لن تشكل معايير لاختيار مرشح للرئاسة. لذا هم يعلنون معارضتهم ترشيح رجل مثل دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة.
(4)
ويكشف الأمر خللاً أعمق في أسلوب الترشيح والانتخاب في النظام الأميركي. ولعلّ المتابع
سيرى أنّ مذكرة المثقفين الأميركيين، وفيهم أسماء يُشار إليها بالبنان، تجاوزت معايير الديمقراطية الأميركية التي تتيح لرجل أشبه بالمهووس، إن لم يكن مخبولاً بالكامل، يباهي بثروته ليؤثر على ناخبيه، حتى يصل إلى كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، بدعائياتٍ فجّة، وبلسانٍ متردّد بين الادعاءات الممجوجة والكذب الصريح. يظلّ التساؤل قائماً حول جدوى مثل هذا البيان الذي لا يستهدف، في نظرنا، مرشحاً بعينه مثل ترامب، أو يؤيد مرشحاً بديلاً مثل هيلاري كلينتون، لكنه يطرح سؤالاً حول مصداقية النظام الانتخابي بكامله.
(5)
لا يستهدف بيان المثقفين الأميركيين المرشح الجمهوري دونالد ترامب وحده، بل هو يقدح بقوّةٍ في مصداقية نظام الانتخاب الأميركي، ويطرح تساؤلاً مشروعاً بشأن جدوى المعايير المعتمدة في النظام الأميركي الذي يقوم على مبادئ دستورٍ رسّخ نظاماً فيدرالياً، عمره قرابة 240 عاماً.
بنجامين فرانكلين وجورج واشنطن، من مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية، وكذا الفلاسفة الذين شكّلت أفكارهم أساس ذلك الدستور، مثل جون لوك وجان جاك روسو وهوبز وسواهم، يتململون في قبورهم إزاء رجل اسمه دونالد ترامب، يطمح أن يكون رئيساً للولايات المتحدة الأميركية في مطالع الألفية الثالثة، بلا مؤهلاتٍ تُذكر.