موسم الحج إلى لندن

موسم الحج إلى لندن

10 اغسطس 2016

لندن .. حكاية التاريخ البريطاني العريق (Getty)

+ الخط -
العرب وسط لندن، في أغسطس/ آب الجاري، مثل الرز في حقول الصين، هربوا إلى جو الجزر البريطانية المنعش، وفرّوا أكثر من أخبار داعش والعراق وسورية واليمن والدماء المتدفقة بلا انقطاع فوق أرض لا تشبع من الحزن. هرب نخبة العرب إلى محلات التسوق وسهرات الفن الراقي والشعبي وما بينهما، لكن (الشعب العربي) في لندن لا يزور أماكن كثيرة، تروي حكاية التاريخ البريطاني العريق، وجلهم لا يضعون رجلهم في المتاحف والمكتبات والمؤسسات الكثيرة التي تروي قصة الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تدير لها ظهرها. الجيل العربي الجديد لا يرى من حضارة الغرب إلا مدناً مرتبة، وتكنولوجيا متقدمة، ونمط عيشٍ، لا يلتفت إليه الباقون، جلهم هارب من مصير بلاده إلى بلدان الآخرين، والهارب عادة لا يدقق في وجهته، هو يهرب من ماضيه عند درجة ما بين الاستهانة والمهانة.
لم يصنع تقدم بريطانيا واستقرارها بين ليلة وضحاها، ولم يستورد جاهزاً على طريقة تسليم المفاتيح. قصة نجاح مملكة التاج طويلة، دارت فيها حروبٌ داميةٌ، سالت فيها دماء وقطعت رؤوس، ونفي أبناؤها إلى بلدان وقارات أخرى خارج بلادهم، وعانى الناس من نزوات الملوك وبطش الرهبان أكثر مما عانوا من الجوع والمرض والوباء، ومعه الظلم والعبودية واحتقار البشر ... تالياً قصة تدل على الدورالذي لعبه القضاء في تطوير شرعة حقوق الإنسان والمواطن في بريطانيا قبل أكثر250 سنة.
اقتحم ثلاثة جنود بريطانيين منزل الكاتب جون إنتيك، وكان كاتبا تحت الطلب، يحرّر قصص الإثارة والإجرام للصحف، ويحرّر العقود وبعض البحوث لدور نشر. وفي أربع ساعات من التفتيش، كسر الجنود الأقفال وأبواب المنزل، وأخذوا 100 خريطة و 80 منشورا، كان جون قد انتهى منها ويستعد لتسليمها لأصحابها. تسبب الجنود الغلاظ في تمزيق وإتلاف بعضها، وهم يبحثون عن وثائق جريمةٍ هزت لندن آنذاك، ما تسبب لجون في خسارةٍ قدرها آنذاك في حوالي 200 باوند، وقد فعل الجنود الثلاثة ذلك، بموجب إذن من لورد عيّنه الملك مكلفاً بالشؤون الداخلية (ما يعادل وزير الداخلية حالياً). لم يجد الجنود شيئاً في بيت الكاتب، كما العادة، لكنهم غادروا مخلفين وراءهم خسائر كبيرة.
رفع جون إنتيك دعوى أمام المحكمة، آنذاك، تحت اسم غريب عن الأوساط القانونية في تلك الأيام، وهي "شطط في استعمال السلطة والتعدّي على الملكية" ضد اللورد هاليفاكس المكلف بالشؤون الداخلية. وحين عرضت القضية على القاضي، في إحدى محاكم لندن، وجد الأخير نفسه في ورطة، فبعد بحث وتحرٍّ في مدونة القانون، لم يجد أي نصٍّ عن الشطط في استعمال السلطة، ولم يجد أي سابقةٍ قضائية يتكئ عليها، ولا أي نص قانوني صريح يجيز للمكلف بالشؤون الداخلية استصدار أمر بالتفتيش من الأصل. فكتب القاضي "إذا لم نجد أي حجة أو دليل في الحكم العرفي، ولا في سيادة القانون، ولا في السوابق القضائية، أو الكتب التي بين أيدينا، فإن صمت الكتب يؤول ضد السلطة (المدّعى عليها) لصالح المواطن جون إنتيك المدعي". وحكم لصالح الكاتب المتضرّر من شطط السلطة بتعويضٍ يساوي ما خسره.
وجسّد الحكم سابقةً، لجمت غلواء سلطات الجهاز التنفيذي في بريطانيا، ومازال القضاة يحيلون عليها، واشتهر القاضي كامدن صاحب الحكم بإخراجه مبدأ جديداً لحيز الوجود، ومفاده بأنه "لا يمكن للدولة أن تتخذ أي إجراءٍ خارج ما هو منصوص عليه صراحةً في القانون، فيما لا يحق للفرد القيام بأي إجراء يمنعه القانون". بهذا المعنى، السلطة ممنوعة من الحركة، إلا بموجب نص قانوني، وللمواطن كامل الحرية، إلا فيما يقيده القانون بصريح العبارة.
حدث هذا في عهد الملك جورج الثالث (1761/ 1820)، الذي شهد استمرار مسلسل تقليص نفوذ الملكية الذي بدأ مع جدّه جورج الأول، حيث بدأت بريطانيا تنتقل إلى نظام مجلس الوزراء. وفي أثنائه، رفع البريطانيون المقيمون في أميركا شعار "لا ضريبة من دون تمثيلية في البرلمان" وكان الشعار في بدايته هروباً من دفع الضريبة التي فرضتها حكومة لندن على المستعمرين البريطانيين الكبار الذين كانوا يجنون أرباحاً خيالية من استغلال المستعمرات الأميركية، لكن الشعار بعد ذلك صار جزءاً من المنظومة الديمقراطية، حيث الضريبة مرتبطة بالتمثيل النيابي، والواجبات مربوطة بالحقوق، والتعاقد أساس الحكم.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.