مقاربة شرعية لقضية التحرش

مقاربة شرعية لقضية التحرش

20 ديسمبر 2014
+ الخط -

أصبحت قضية التحرش من القضايا التي تشغل بال الرأي العام، لما تطرحه من مشكلات يومية في مجتمعنا، خصوصاً لدى النساء والشابات، اللواتي يعانين خارج البيت من تحرش الرجال والشباب، وقد سعت المنظمات النسائية والحقوقية، بكل ما أوتيت من إمكانات تواصلية وإعلامية، إلى إخراج هذه القضية من دائرة السلوك المسكوت عنه إلى دائرة السلوك المدان مجتمعياً، والمجرّم قانوناً، لكن السؤال: هل ستنجح المقاربة القانونية الردعية وحدها؟
يُلاحظ أن قضية التحرش عندما تطرحها تلك المنظمات، تعالج من زاوية ضيّقة جداً، تقتصر فقط على مقاربة بعدية/زجرية، بحيث تكون غاية ما تطالب به هو تجريم تحرش الرجال بالنساء وتوقيع العقوبة على المتحرشين، من دون أن تتناول الأسباب والسياق الاجتماعي والثقافي والنفسي الذي أنتج هذه الظاهرة الغريبة عن مجتمعنا. ولهذه الغاية، نعرض، هنا، قراءة شرعية عقلانية لقضية التحرش، بحيث لا نقف عند الجوانب الظاهرة منها، وإنما نبحث في أسبابها وجذورها، بالاسترشاد بأحكام الدين في مقاربة الظاهرة.
قضية التحرش ذات أبعاد متعددة، لها ارتباط بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية، لكننا سنقف على كيفية مقاربة الدين القضية بطريقة عقلانية عميقة، من خلال الوقوف على أهم أسبابها المباشرة. لذلك، عندما أراد الشرع الحكيم معالجة التحرش، لم يكتف بسن تشريع، أو إصدار قوانين عقابية لردع المتحرشين، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، عندما أرشد المؤمنات لمجموعة من التدابير الاحترازية، حفاظاً على عفافهن وكرامتهن من الامتهان، منها ما هو متعلق باللباس، (يَاأ يُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)، ومنها ما هو متعلق بطريقة الكلام: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفا)، ومنها ما هو متعلق بحركة الجسد: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

كل هذه التدابير والاحتياطات التي وضعها الإسلام للمرأة، غايتها حماية النساء، وصون كرامتهن من التعرض للتحرش، ولنتأمل في عبارة "فلا يؤذين" في الآية الأولى، فهي تعني، بشكل واضح، الأذى النفسي والمعنوي الناتج من فعل التحرش. لذلك، حثهن على اختيار اللباس الشرعي الساتر، درءاً للإثارة، وكذلك في الآية الثانية العبارة البليغة "فيطمع الذي في قلبه مرض"، أي أن طريقة كلام المرأة المسلمة، خصوصاً مع الرجال، أو في حضورهم، لا ينبغي أن يكون فيها تَغَنُّج ودلال.. حتى لا تستثير الرجال عموماً، وخصوصاً الذين في قلوبهم مرض، وما أكثرهم في زماننا.. وكذلك بالنسبة للآية الثالثة التي تنهى عن ضرب النساء بأرجلهن أمام الرجال، في إشارة إلى ضبط حركة الجسد، حتى لا تتكشف مفاتن المرأة، وتلفت النظر إليها. وعندما كانت المجتمعات الإسلامية مستمسكة بأحكام الدين في حياتها، لم تكن ظاهرة التحرش تطرح أصلاً فيها.
هذه فقط بعض أحكام شرعية أوردتها في موضوع التحرش، ولا يتسع المقام للتفصيل فيها أكثر، تفادياً للإطالة، لكن المهم أن الدين قارب قضية التحرش بطريقة أكثر نجاعة وفاعلية من النظم والتشريعات الوضعية التي ركزت فقط على الجوانب القانونية الردعية، من دون أن تتطرق، بشكل موضوعي وعلمي، لأسباب الانتشار الرهيب للظاهرة في المجتمعات الحديثة. ولذلك، لن تنجح في الحد من الظاهرة، ما دامت أسباب استمرارها قائمة، وليس من المنطق السديد، ولا من العقل الرشيد، أن يجتمع نقيضان: الدفاع عن الحرية المطلقة للنساء في اللباس المثير، وفي الوقت نفسه، الدفاع عن كرامتن ضد التحرش؟
قد يقول قائل إن الإسلام حمّل المرأة وحدها مسؤولية الوقاية من التحرش دون الرجل، على الرغم من أن أغلب التحرش مصدره الرجال، وهذا غير صحيح، لأنه، في المقابل، منع على الرجل التحرش بالمرأة في درجاته الدنيا، بأن حرم عليه النظرة إليها بشهوة، فبالأحرى بالكلام واللمس والمطاردة، فجاء النهي واضحاً في قوله تعالى: (وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.. )، أما القانون الوضعي، فقد جرّم فقط التعرض للنساء ببعض الكلام الذي فيه إساءة وإكراه وعنف لفظي، أما الغزل ونحوه، فلا يعتبره من التحرش. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تعترف التشريعات الغربية بحرّية النساء والرجال في التعارف وربط العلاقات العاطفية والجنسية، لكنها، في الوقت نفسه، تجرم التحرش، مع العلم أن أغلب العلاقات التي تقع بين الشباب، ذكوراً وإناثاً، تكون عن طريق تحرش أحدهما بالآخر..

نخلص إلى القول إن المقاربة القانونية البعدية، على أهميتها، ليست كافية وحدها للحد من انتشار التحرش في المجتمع، والدليل أن النساء في المجتمعات الغربية لا زلن يعانين من التحرش في الفضاءات العامة، على الرغم من القوانين الزاجرة، طبعاً مع وجود الفارق في النسب، لأن أسباب المشكل لم تتم مراجعتها ومعالجتها، باعتبار أن الفكر العلماني الغربي يركز فقط على الحريات الفردية، من دون النظر إلى آثارها السلبية على حياة المجتمعات والأفراد، ومثال ذلك الدفاع عن خروج المرأة إلى سوق الشغل، مع احتفاظها بمسؤوليات تربية الأبناء ورعاية الأسرة، ما زاد من إثقال كاهلها ومعاناتها، وكان له تأثير على سعادتها وراحتها.

CE7EB635-75EB-4416-B522-A8AA5BDBE4A0
CE7EB635-75EB-4416-B522-A8AA5BDBE4A0
فؤاد الفاتحي (المغرب)
فؤاد الفاتحي (المغرب)