الدعوة إلى الفن الملتزم

الدعوة إلى الفن الملتزم

25 مايو 2015
+ الخط -
يسود اعتقاد خاطئ لدى فئات عريضة من الناس، في المجتمعات العربية والإسلامية، مفاده بأن الاشتغال في المجال الفني يخالف الدين، وأن امتهان التمثيل والغناء محرم شرعاً، وهذا اعتقاد ترسخ بسبب ما راج من آراء فقهية متشددة لبعض علماء المشرق، وقد كانت مصر سباقة لانتشار هذا الاعتقاد، لأنها تاريخياً كانت الرائدة في المجال الفني، حيث شهدت مبكراً اعتزال أسماء لامعة في الوسط الفني، لكن المثير أن يتجه هؤلاء الفنانين والفنانات إلى ممارسة الدعوة والإرشاد الديني.
لم نشهد في المغرب الدرجة نفسها من اعتزال الفنانين، وإنما كانت هناك حالات محدودة جدا، ولأسباب خاصة، كما حدث مع الفنانة عزيزة جلال وبهيجة ادريس، مثلا. لكن، في السنوات الأخيرة، بدأنا نسمع عن اعتزال فنانين المجال الفني، وخصوصاً الغناء، وإعلان آخرين عن رغبته في الاعتزال، وهذا يدل على أن التمثل الخاطئ لموقف الدين من الفن، انتقل إلينا وبدأ ينتشر داخل الوسط الفني المغربي، وهو السبب الذي دعاني للكتابة في الموضوع، لتسليط الضوء على قضية اعتزال العمل الفني، وعلاقتها بالقراءة الضيقة لحكم الدين.بداية، يجب التأكيد على أن الدين الإسلامي عندما يحرم شيئاً، فإنه يأتي بنصوص قطعية ومحكمة الدلالة، حتى لا يترك مجال للشك واللبس، وهناك أقضية ومسائل لم يقطع فيها بحكم صريح، وتبقى مجالا للاجتهاد والاختلاف، ومنها موضوع الغناء الذي اختلف حوله العلماء عبر العصور، وهذا الاختلاف مصدره الاستدلال الفقهي بنصوص واردة في الموضوع، بحسب المدارس والمراجع الفقهية، وليس المجال هنا للتوسع في سرد الاختلاف. لكن، ما يهمنا أن جمهور العلماء لا يرون بحرمة الفن عموماً، والغناء خصوصاً، إذا كان يخدم قضايا الأمة، ويلتزم بضوابط أخلاقية، تحافظ على قيم المجتمع.
ومن المعلوم أن الأحكام الشرعية تقوم على علل وحِكم شُرعت لأجلها، والفن عموما من وسائل الترفيه والتثقيف، يمكن وصفها بسيف ذي حدين، فهي إن التزمت بالضوابط الأخلاقية، فإنها تساهم في الرقي بالذوق، وتعزيز القيم المثلى، وإن تحللت من الضوابط، فإنها تصبح من عوامل هدم القيم، وإفساد الذوق العام.
وهكذا، عندما نتحدث عن الغناء فناً من الفنون الجميلة، نجد أنه وسيلة ثقافية يمكن أن يوظف في اتجاه الحفاظ على القيم الأصيلة في المجتمع، ويمكن أن يسخر للعبث بهذه القيم، وهذا ما نشاهده اليوم للأسف في أعمالٍ كثيرة، تُقدم للجمهور المغربي، بحيث إن معظم هذه الأعمال لا تحترم الحد الأدنى من الضوابط الأخلاقية، سواء فيما يتعلق بالكلمات أو المواضيع التي تعالجها، فقد أصبحنا نلاحظ موجة عارمة من الأعمال التي تتغنى فقط بالمواضيع العاطفية مرفقة بكليبات خليعة، تحرض على العلاقات غير الشرعية، وتستخدم فيها كلمات ساقطة وخادشة للحياء، وهذا راجع بالأساس إلى اختراق المجال الفني من أشخاص لا أخلاق لهم ولا حساً وطنياً، همهم الوحيد تحقيق الأرباح على حساب قيم المجتمع، وتوظيف الفن لأغراض مشبوهة، حتى صار الفن المبتذل هو المهيمن.
أما عندما كان الفاعلون في المجال الفني من النخبة التي تؤمن بأن رسالة الفن ذات أهداف سامية وقيم نبيلة، فإن الوسط الفني خلد لأعمال فنية رفيعة، تتناول قضايا متنوعة وطنية وإنسانية واجتماعية، وحتى العاطفية منها كانت تمتاز برقيها وجودتها، وبعدها عن الإثارة المجانية.
وربما تكون هيمنة الأعمال المبتذلة على المجال الفني ما دفعت ببعض الفنانين إلى اعتزال الفن، خصوصاً مجال الغناء، لكون قناعتهم الدينية تتعارض مع الاشتغال في مجال تعطلت فيه الضوابط الأخلاقية، إلا أن هذا التوجه يحتاج إلى مراجعة، خصوصاً عندما يختار الفنان المعتزل التوجه إلى مجال الدعوة والإرشاد الديني، حيث إن هذا الاعتزال لا يخدم الدين، كما لا يساهم في إصلاح ما فسد من الفن، فهو يعطي الانطباع للناس بأن الفن حرام بإطلاق، وهذا غير صحيح كما أسلفنا، كما أنه يضيّق مجال الدعوة ليحصرها في الموعظة والتوجيه الديني، في حين أن الدعوة لها مدلول واسع، فكل مسلم يمكن أن يكون داعية في مجال تخصصه، باستقامته وتدينه وأخلاقه وإتقانه عمله، الفنان والطبيب والمهندس والمحامي والموظف.. كل واحد في عمله، وبالتالي فبدل اعتزال المجال الفني، الأولى استبدال الأعمال الفنية التي لا تحترم الضوابط الأخلاقية والقيمية للمجتمع، بأعمال ملتزمة، وهكذا يصبح الفنان داعية بفنه وإبداعه، بدل الاتجاه إلى مجال الموعظة والإرشاد الذي له أهل الاختصاص، والقصد هنا التفرغ للدعوة وترك العمل الأصلي، وليس مطلق الدعوة إلى الله، فهو عمل مرغّب فيه لكل مسلم.
وهناك فنانون وفنانات مغاربة كثيرون قدموا أعمالا فنية جيدة، مصدر فخر لكل المغاربة، لأنها كانت تعبيرا عن مواضيع جادة تهمهم، والتزمت بضوابط أخلاقية، واحترمت قيمهم وثقافتهم، وفي طليعة هؤلاء، الفنان القدير عبد الهادي بلخياط الذي اعتزل المجال، لكنه أحسن صنعا عندما تراجع عن قراره، وعاد إلى تقديم أعمال فنية ملتزمة، لا يهم أن تكون موضوعاتها دينية أو إنسانية أو اجتماعية، المهم أن تحترم قيم الجمهور، وتحافظ على الذوق الرفيع، وهذا ما نأمله في بعض الفنانين الشباب الذين قرروا الاعتزال، وتركوا الساحة الفنية للإنتاجات الهابطة والرديئة، والأفضل لهم أن يعودوا إلى تقديم بديل فني ملتزم، يعيد إلى الفن أصالته، وإلى الغناء نبله، ويساهموا في الارتقاء بالذوق العام، وتعزيز القيم والأخلاق داخل المجتمع.
CE7EB635-75EB-4416-B522-A8AA5BDBE4A0
CE7EB635-75EB-4416-B522-A8AA5BDBE4A0
فؤاد الفاتحي (المغرب)
فؤاد الفاتحي (المغرب)