مسيحيو مصر بين الكنيسة والمواطنة

مسيحيو مصر بين الكنيسة والمواطنة

29 ابريل 2014

.. في كنسية مصرية بالقاهرة (6 يناير 2014 Getty)

+ الخط -
مثلت ثورة 25 يناير 2011 تحدياً حقيقياً لبنية الاستبداد في مصر على الأصعدة كافة، وخصوصاً لهيمنة الكنيسة المصرية وعلاقتها المشوهة مع أجهزة نظام حسني مبارك. وبالتالي، لم ترحب الكنيسة بالثورة، وحرّمت الخروج والمشاركة في تظاهرات ميدان التحرير، باعتبارها من أعظم الذنوب التي لا يقبل الرب العفو عنها، في الدنيا والآخرة.
وتعد العلاقة بين الكنيسة و"الشعب المسيحي" من جهة والكنيسة والدولة من جهة أخرى من موضوعات شائكة يندر تناولها، في الأعمال البحثية والإعلامية بشكل منصف، وهي من التعقيد بمكان حيث يصعب تناول كل تجلياتها في مقالة واحدة، إلا أنه يمكن، هنا فقط، تسليط الضوء على أحد تجلياتها المهمة، والذي له دلالة فيما نراه الآن من علاقةٍ، تبدو حميمية بين الكنيسة وأجهزة الدولة القمعية، على حساب مواطنة "الشعب المسيحي".
مع قيام الثورة، علت أصوات المصريين المسيحيين، مطالبة بمواطنة كاملة في الدولة، تعني، ببساطة، المساواة في الحقوق والواجبات، على المستويين الفردي والجماعي، وطرحت، أيضاً، هذه المواطنة ضرورة إخراج الكنيسة من معادلة تعامل المواطنين المسيحيين مع الدولة، لتعود الكنيسة مؤسسة دينية، تعمل في المجالات الروحية والدينية فقط، ولا دخل لها في السياسة، وبالتالي، ليس من حق الكنيسة أن تدّعى أنها ممثلة للمسيحيين، في اختياراتهم السياسية تجاه مرشح رئاسي، أو حزب بعينه. وليس من حقها أن تكون وسيطاً بين المواطنين المسيحيين والدولة، في حصولهم على حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مثل بناء دور العبادة الخاصة بهم.
في هذا السياق، ظهرت مجموعات منظمة من المصريين المسيحين، تتحدث، بوضوح وعلناً، عن قضية التحرر من الكنيسة، أو الثورة عليها، وهذا، بالفعل، مثل تحدياً خطيراً للكنيسة وشرعيتها، كما أنه مثّل، بالقدر نفسه، تحدياً خطيراً لأجهزة الدولة العميقة التي تستفيد من ورقة حشر المسيحيين تحت عباءة الكنيسة، والتعامل معهم من خلالها، الأمر الذي يسهل قمعهم واستخدامهم، كيفما شاءت وقتما تشاء.
وهكذا، مثلت انتقادات الشباب المسيحي البابا الراحل شنوده في علاقته مع مؤسسات الدولة مؤشراً على اقتراب ثورة المواطنة-المنبثقة من ثورة التحرير- للمسيحيين في وجه الكنيسة. وكان هذا دافعاً إضافياً لضرورة دخول الكنيسة في حلفٍ مع مؤسسة الدولة، حتى لو كان هناك تاريخ من الجراحات، اضطهدت فيه الدولة المسيحيين والكنيسة معاً. فشرعية المؤسستين أصبحت على المحك، مع اندلاع ثورة المواطنة في العقل المسيحي، وبالتالي، كان لا بد من إعادة هذا العقل إلى حظيرة الخضوع والخنوع والانبطاح للكنيسة، وبالتالي لنظام اللامواطنة.

وساهمت مجموعة عوامل في شرعنة خطاب الكنيسة، باعتبارها الكفيل الحصري لـ "الشعب المسيحي"، وتراجع الوعي المسيحي عن ثورة المواطنة من نموذج المواطنة داخل الجماعة الوطنية، باتجاه نموذج الطائفية المتمايزة، منها:1) الخطاب الإسلاموي غير المستنير تجاه الأقليات عموماً، وتجاه المسيحيين خصوصاً، فلقد مثل خطاب الحركات السلفية، تحديداً، مصدر تهديد وجودي للمسيحيين، من خلال انتزاعه حقوقهم كمواطنين، ووصفهم بالأقلية التي عليها أن تقبل بأوضاع غير عادلة، فقط لأنها تدين بغير دين الأغلبية. وترتب عن ذلك عدم أحقيتهم، وفقاً لهذا الخطاب، في تولي المناصب التنفيذية في الدولة، بالإضافة إلى عدم أحقيتم في بناء دور العبادة، على النحو المعمول به للمسلمين. 2) تواطؤ أجهزة الدولة، مشاركةً أو تقاعساً في حماية المنشآت ودور العبادة المسيحية، بالإضافة إلى عدم تقصي حقائق عادلة، ومحاسبة المتورطين في أعمال التخريب والهدم والقتل، والتي طاولت مصريين مسيحيين وممتلكاتهم. 3) الخطاب الاعلامي المعادي للمسيحيين كمواطنين، وتصويرهم باعتبارهم مخربين لأجهزة الدولة، أو معادين لها، وظهر ذلك، بشكل سافر، في الخطاب الإعلامي المصاحب أحداث ماسبيرو في 9 أكتوبر/تشرين أول 2011، والذي أدى إلى مذبحة راح ضحيتها 26 مواطناً، وتم تبريرها إعلامياً.
في الحقيقة، استفادت الكنيسة من هذا الوضع الذي عزز من شرعيتها، حامياً لشعب الرب من الاضطهاد الذي تُعرّفه، هي كيفما تشاء. وبالتالي، كان طبيعياً أن تنحاز إلى عودة النظام القديم، لأنها تعلم، جيداً، أن شرعيتها مرتبطة بوجود نظام قمعي وغير عادل، يُبقي شعب الكنيسة في محنة الأقلية، حيث تبدو هي لهذا الشعب كالملاك الحاني والملاذ من الشر. وهي تعلم جيداً أن تحول مصر دولةً ديمقراطيةً يعني فقدان الكنيسة امتيازاتها، وامتيازات رجالها، وخروج "الشعب المسيحي" من حظيرة الكنيسة إلى ميدان التحرر والتحرير من السيطرة الدينية. وهكذا، وضعت الكنيسة المواطنين المسيحيين بين خيارين كلاهما، مُر وهما إما الارتماء في أحضان الكنيسة، والتسليم لهيمنتها، أو اللجوء إلى خطاب الطائفة المتمايزة عن الجماعة الوطنية. غير أنه ثمة خيار ثالث، يلتزم به نفر من المواطنين المصريين المسيحيين، على الرغم من تعرضهم لمضايقات، من الكنيسة بتكفيرهم وطردهم من رحمة الكنيسة، ومن أجهزة الدولة، باعتبارهم مارقين على السلطة الدينية، وبالتالي، لا ظهر لهم ولا أب! هؤلاء ملتزمون بطريق الكفاح الجمعي في وطن لا تعامل فيه الدولة شعبها، مسلمين أم مسيحيين، كمواطنين، فالكل سواء، ومستباح دمه وعرضه وماله.
وبالتالي، المعركة الحقيقية هي معركة المواطنة، ولا بد فيها من فتح الصندوق الأسود، وطرح الأسئلة المشروعة من دون خجل عن شرعية الكنيسة، وعلاقاتها بأجهزة الدولة القمعية وشبكاتها العميقة، وعلوها فوق كل رقابة، وتدخلاتها في حياة المواطنين المسيحيين وفرضها راعياً ومتحدثاً حصرياً للمواطنين المسيحيين، منتزعة صفة المواطنة عنهم. ومُسدلة صفة الرعية التي لا بد أن تخنع في سكون، حتى تأكل "فتات" الخبز "المغمس" بقدسية الكنيسة!
 
EB663898-3457-459C-B1E2-A40FE222DCB7
نجوان الأشول

كاتبة مصرية، رئيسة المركز العربي لتحويل النزاعات والتحول الديمقراطي، باحثة دكتوراه في الحركات الاجتماعة والإسلامية بالجامعة الأوروبية، عملت باحث دكتوراه في المعهد الألماني للدراسات الدولية. تنشر مقالات بالعربية والانجليزية.