مساء جمعة الغضب

مساء جمعة الغضب

29 يناير 2016

احتجاجات جمعة الغضب في مصر في 28/ يناير/ 2011

+ الخط -

 

مساء جمعة الغضب

 

خمس سنوات مرت على جمعة الغضب الخالدة (28 يناير 2011) يوم الثورة المصرية الأهم والأعظم، ولم أقو بعد على كتابة وقائع ما عشته فيها، حاولت كثيرا وفشلت، مع أنني أحتفظ بذكريات ذلك اليوم بداخلي، كأنها حدثت بالأمس، برغم أنني نسيت وقائع أيام كثيرة تلته، يعرف من عاش ذلك اليوم هذا الإحساس جيدا، هو يوم يصعب نسيانه، ويشق أيضا على النفس تذكره، لما يثيره من مشاعر جياشة يختلط فيها الفخر بالأسى. ما استطعت أن أفعله حتى الآن، أن أكتب هذا السيناريو ذا المشهد الوحيد، من وحي تجربتي في محاولة عبور الشوارع المحيطة بوزارة الداخلية لكي أصل إلى بيتي المجاور لها، وقد كان ما شهدته هولاً، لولا أن هناك من وثقه بالكاميرات، لما صدقه أحد، ولعلك لا تحتاج إلى أن أخبرك، أن عددا من أصدقائي حاولوا أن يخرجوا هذا السيناريو القصير إلى النور دون جدوى، برغم أنني كتبت سيناريوهين قصيرين من وحي أيام الثورة، قام بإخراج أحدهما الأستاذ محمد علي وأخرجت الآخر الأستاذة كاملة أبو ذكري، وظهر الاثنان ضمن فيلم (18 يوم)، والذي يضم عشرة أفلام قصيرة، والذي ما زال محجوبا عن العرض داخل مصر منذ إنجازه في عام 2011 حتى الآن، برغم عرضه في عدة مهرجانات دولية، ولا أظنك تجهل الآن سر ذلك الحجب، كما لا أظنك ستسأل لماذا لم ير هذا الفيلم القصير النور، خصوصا بعد أن تنتهي من قراءته. 

 

(الكاميرا تستعرض شارعا في حي شعبي من أحياء عابدين القريبة من وزارة الداخلية.. يبدو خاليا من المارة.. هناك أصوات رصاص كثيفة تعلو في الخلفية.. كل الشبابيك والبلكونات مغلقة.. نرى شابين في العشرينات يدخلان إلى قلب الشارع منعطفين من شارع جانبي.. يبدو أحدهما مستندا على كتف صاحبه ويزُكّ على رجله وهو يسير.. عندما تقترب منه الكاميرا أكثر نرى أن ذراعه مربوطة بقميص وأن الدم يملأ القميص ويملأ ملابسه.. كما أن فخذه هو الآخر مربوط بشال ربطة محكمة.. والدماء تملأ بنطلونه وتملأ الشال أيضا.. الاثنان وهما يسيران يلتفتان خلفهما بخوف فنفهم أنهما هاربان.. ينظران حولهما في كل اتجاه.. يعلو صوت الرصاص من خلفهما من مناطق مختلفة.. يدخلان إلى باب عمارة قديمة قريبة منهما.. بمجرد دخولهما نرى أن هناك بابا في دور من أدوار البيت كان يستعد للفتح.. يغلق بسرعة.. لا توجد إضاءة قوية في المكان بل هناك نور خافت يأتي من أعلى ولكنه يكفي بالكاد لتبين المكان.. الصمت يسيطر على السلم.. يتجه الاثنان نحو بير السلم وهو مكان متسع على طريقة البيوت القديمة.. يبدو المكان لهما آمنا وهادئا.. يواصل الشاب السليم إسناد زميله المصاب.. حتى يصلان إلى عمق بير السلم.. يقوم بإسناد زميله لكي يجلس ويسند ظهره على الحائط.. يتألم الشاب لكنه يكتم أصوات الآهات لكي لا تلفت انتباه أحد.. يتطلع الاثنان حولهما فيجدان أن الدور الذي يجلسان فيه لا يوجد صوت ينبعث منه وأنه يمكن أن يكون مهجورا.. يتفحصان المكان للاطمئنان.. ويشعران بالأمان قليلا)

(ينظر لصاحبه بإشفاق)

السليم:

هه يا صاحبي.. تمام دلوقتي؟ 

(وهو يتطلع في جروحه)

المصاب:

ما أعرفش.. الدم شكله وقف بس أنا مش حاسس لا بدراعي ولا برجلي اليمين

(مطمئنا إياه)

 

(يستعد للنهوض)

السليم:

طالما الدم وقف يبقى خير.. مش هينفع نلف في الشوارع كده كتير.. بص إنت هتستنى هنا وأنا هاروح أجيب لك الإسعاف حالا

(بقلق)

المصاب:

لا بلاش إسعاف.. ماانت عارف اللي بيقع تحت إيديهم بيسلموه لأمن الدولة طوالي

 

السليم:

يعني إيه.. هاسيبك كده؟

(مبتسماً لكي يهدئ من روع صاحبه)

 

المصاب:

أرحم من إني ألاقي نفسي في أمن الدولة.. على الأقل أنا حاسس دلوقتي بباقي جسمي.. هناك مش هاحس بحاجة

(وهو يفكر فيما سيفعله)

السليم:

ماتخافش أنا هاعدي على الواد ناصر.. هنضبط عربية وناخدك مستشفى المقطم.. بيقولك المدير بتاع المستشفى راجل محترم وتبعهم .. ده لسه في ناس متصابة من يوم خمسة وعشرين بايتين عنده في الأمان

 

المصاب:

بس هنوصل له إزاي.. ده الجيش خلاص نازل وفاضل على حظر التجول ساعة

(مطمئنا له)

 

(وهو ينهض ويقول له بمودة شديدة)

السليم:

ياريت نقابل الجيش في طريقنا.. على الأقل نستنجد بيهم لو حصل أي غدر

خليك هنا ماتتحركش.. أنا مش هاتأخر.. ساعة بالكتير وأكون عندك 

(ضاحكا)

المصاب:

وله.. إوعى تسخن وتروح ناحية الداخلية زي الواد محمود الله يخرب بيته.. ولا حرام ربنا يسترها معاه 

 

السليم:

ماتخافش مش هاسيبك تنزف كده.. إزاي بس

(بقلق)

المصاب:

إيه ده.. هو أنا لسه بانزف

(يعود ليطمئنه)

السليم:

ما أقصدش.. إنت زي الفل.. أنا مش هاتأخر خالص.. خلي بالك من نفسك.. لا إله إلا الله

 

المصاب:

محمد رسول الله 

(يخرج السليم من الباب تاركا المصاب خلفه.. يخرج المصاب من جيب جاكتته موبايله الذي لا يبدو عليه أنه فخم أو فاخر.. يستخدم نور الموبايل في التعرف على المكان من حوله.. لا يجد أي معالم تستوقفه.. يقوم بالتقليب في صور الموبايل.. يمكن أن نراه يقوم بتخفيض صوت الموبايل ويشاهد على الموبايل فيديو لمشهد من مشاهد الاشتباكات على كوبري الجلاء ونفهم من سياق الفيديو أنه قام بتصويره، إذ نسمع صوته وصوت صاحبه وهما يهتفان ويصرخان.. خلال المشاهدة يتألم بين الحين والآخر لكنه يتغلب على ألمه.. بعد أن ينتهي الفيديو ومن باب تقضية الوقت، يقوم بالتقليب على الموبايل، ويتصفح بعض الصور ويمكن أن نراه يشاهد صورا لخطيبته المحجبة وهما في فسحة أو في بيت أهلها البسيط مثلا.. تأتي صورة لحماته في الصور وهي بصحبته وصحبة خطيبته والاثنان يكتمان الضحك احتراما لها فينظر للصورة ضاحكا ويطيل النظر لصوره مع خطيبته ومع أمه.. يصدر الموبايل إشارة أن الشحن قارب على الانتهاء فيقوم بإطفاء الموبايل وهو يضحك بسبب المصادفة.. يعيده إلى جيبه ويسود الصمت والظلام النسبي في المكان.. بعد قليل يسمع صوت أقدام تجري من الخارج متجهة إليه.. يرى شخصا دخل إلى العمارة واتجه إلى المنور وهو ينهج ثم يتجه إلى أسفل السلم لكي يختبئ ويقف وهو يلتقط أنفاسه بينما يشرئب بجسده متطلعا إلى الخارج.. الرجل في منتصف الأربعينات يرتدي قميصا أبيض وبنطلونا أسود.. يلتفت فيجد المصاب جالسا على الأرض فيفزع.. يشير له المصاب واضعا يده على فمه أن يصمت ويطلب منه أن يجلس.. يجلس وهو يتفرس في ملامحه وينظر إلى أماكن إصابته بتطلع.. من الخارج نسمع أصوات أقدام تجري بينما يستمر صوت الرصاص مدويا في الخلفية.. يتحفز الرجل الذي دخل متأخرا.. ثم عندما تبتعد الأصوات التي تجري يهدأ قليلا ويأخذ نفسا ويسند ظهره على الحائط وهو يجلس القرفصاء.. ثم يريح نفسه جالسا على الأرض.. كل هذا والمصاب يتطلع فيه وفي ملامحه 

 

بعد أن أحس أنه هدأ والتقط أنفاسه يقوم بفتح الحوار معه

 

المصاب:

 

كانوا بيجروا وراك ولاد الكلب   

(وهو يحاول تماسك أعصابه)

الرجل:

ولاد كلب.. بس إيه.. فلت منهم بأعجوبة

(يأخذ نفسا عميقا.. ينظر المصاب إلى ملابسه الخفيفة فيقول له باستغراب)

 

 

 

المصاب:

إنت كده هتاخد برد

(وهو يحاول أن يكون ودودا)

الرجل:

أعمل إيه.. قلعت الجاكيت والبلوفر عشان أخبي وشي من الغاز.. وقعوا مني وأنا باجري

(يبتسم بمرارة)

 

 

(يشير له إلى جروحه)

المصاب:

غاز إيه بس ياعم .. ده طلع الغاز رحمة.. دول بيضربوا بالرُصاص الحي خبط لزق.. ده ولا الصهاينة في إسرائيل

شايف رصاصة في دراعي أهيه والتانية في فخدي.. يارب تكون طلعت زي اللي في دراعي

(مستغربا)

الرجل:

يا ساتر يا رب.. إنت مارحتش المستشفى ليه

 

المصاب:

صاحبي راح يجيب عربية عشان ينقلني مستشفى مايكونش فيها مخبرين ولا أمن دولة.. تخيل الكفرة ولاد الوسخة مش عاتقين حتى اللي بيتصابوا

(وهو ينظر له باهتمام)

الرجل:

إنت اتضربت عند الداخلية

(ضاحكا وهو يكتم ألمه)

المصاب:

وهو أنا مجنون ياعم.. العيال اللي راحت الداخلية دي مستبيعة وأنا مش قدها

 

الرجل:

أمال إتضربت فين 

 

المصاب:

اتضربت وأنا معدي جنب قسم السيدة.. في ضباط من القسم طلعوا فوق سطوح القسم وقعدوا يضربوا الناس بالنار.. اللي إتقتل واللي اتصاب.. دي كانت مجزرة ياباشا

 

الرجل:

إنت كنت عايز تخش القسم ليه

(بضحكة مريرة)

المصاب:

وهو في حد عاقل يفكر يخش القسم برجليه.. إذا كنا مابنخشوش في الإيّام العادية.. يبقى هنخشه والدنيا والعة

(بجدية)

الرجل:

أمال إيه اللي وداك بس ناحية القسم

(يحكي بحماس شديد)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(بحزن شديد)

 

(يدرك أنه تحدث كثيرا فيسأله)

 

المصاب:

كنا رايحين نقف قدام القسم ونهتف لغاية ما نطلع صحابنا اللي اتقبض عليهم في المظاهرة.. إحنا أصلا كنا طالعين من جامع السيدة بعد صلاة الجمعة وعايزين نطلع ناحية القصر العيني.. وقفونا عند أول المبتديان.. إتلموا الضباط والأمنا والمخبرين وخطفوا أربعة من صحابنا وطلعوا بيهم على القسم.. قلنا نلحقهم قبل مايودوهم أمن الدولة ومانعرف لهمش طريق زي اللي إتقبض عليهم يوم خمسة وعشرين.. على ماوصلنا القسم لقينا الناس محاوطاه بالآلافات.. والضباط والأمنا عمالين يضربوا نار على الناس قمت واخد الطلقتين.. بس الحمد لله حظي حلو.. ده في واحد كان معدي جنبينا خد رصاصة هنا هوه.. في قلبه.. مات قدام عينيا.. الله يرحمه

إنما إنت جاي منين ياباشا.. ومين اللي كان بيجروا وراك   

(بهدوء شديد)

الرجل:

أنا كنت رايح الداخلية.. بس ماعرفتش أوصل

(ضاحكا بمودة)

المصاب:

يعني طلعت من العالم المستبيعة ياباشا واللي يسمعك يقول عليك عاقل.. ده بيقولك كان في مجزرة هناك

(يحكي بهدوء يثير تعاطف المصاب)

الرجل:

مانا ماقدرتش أوصل.. الغاز مالي الدنيا.. ماعرفتش آخد نفسي عشان عندي حساسية في صدري.. جربت أحط بصل وخل وكولا وكل اللي الناس كانت بتديهوني مانفعش.. لقيت ناس بتجري هربانين جريت.. ما أعرفش بقى كانوا بيجروا من إيه.. لغاية مادخلت هنا

(بمودة)

المصاب:

حمد الله ع السلامة

 

الرجل:

الله يسلمك

(يبدو أن الرجل أميل للصمت بينما المصاب أميل للحكي والفضفضة)

 

(ينظر له الرجل مستغربا الجملة)

(يضيف مؤكدا)

(يحكي بحماس كأنه يقول معلومات يعرفها وليس رأيا)

 

 

 

(وهو ينظر إلى جراحه ويواصل الحديث بتدفق ومرارة)

 

(بنبرة يعلو فيها الشجن)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(ينظر إلى الرجل فيجده صامتا فيقول له ضاحكا)

المصاب:

كويس إنك جريت.. في الظروف اللي زي دي لما تلاقي ناس بتجري.. إجري وخلاص من غير ماتسأل إيه الموضوع

أصل مبارك إتجنن خلاص

آه والله زي ما باقولك كده

باين عليه لما لقى الناس طلعت بالملايين قالك مابدهاش بقى.. الناس دي مش هترجع بيوتها تاني إلا لو خلصت من كام ألف منهم.. قام قايل لرجالته إدوها بقى.. إضرب يابني إنت وهو بالرصاص الحي في الإدمغة والصدور وفين مايوجعك.. لما نشوف آخرتها مع العيال بنت الكلب دي

حد كان يصدق إنه يعمل كده .. يضرب الناس بالرصاص؟.. طب تصدق بالله أنا لما عرفت إن في ناس استشهدت في السويس يوم خمسة وعشرين قلت دي أكيد صدفة.. أكيد غلطة.. ضابط ماعرفش يمسك أعصابه وفلتت منه كام رصاصة قام قاتل الإتنين الشباب السوايسة

إنت عارف بيقولك اللي استشهدوا في السويس دول مالهمش في السياسة.. كانوا خارجين كده عشان مخنوقين من اللي بيحصل في البلد.. أول مرة يمشوا في مظاهرة.. إتقتلوا ياعيني.. أنا قلت والله دي كانت غلطة.. بس بعد اللي شفته النهارده لا الموضوع مش سهل.. الراجل ده خلاص إتجنن وحلف يخلص علينا كلنا عايز يربينا عشان وقفنا في وشه وقلنا له كفاية بقى حل عن سمانا.. مش طايقين خلقتك خلاص

إنت ساكت ليه.. هوه إنت متضايق إني بارغي.. أنا بصراحة مش مصدق نفسي إني لقيت حد أتكلم معاه 

(يجيب بهدوئه الغامض)

الرجل:

لا ولا يهمك.. أنا بس خايف عليك تتعب.. ده إنت اللي متعور فينا

(ضاحكا)

المصاب:

لا الحمد لله.. أنا زي القطط بسبعة أرواح.. هم سبعة ولا تسعة.. مش فاكر.. بس عموما آدي روحين منهم طلعوا في الرصاصتين دول.. فاضل يا سبعة ياخمسة.. حلوين.. نبقى نضيعهم على مبارك وإبنه

(مستغربا)

الرجل:

إيه إنت ناوي تطلع في مظاهرات تاني

(بحماس شديد)

المصاب:

هو أنا هاسيبه.. يانا ياهوه في البلد دي

أول مرة طلعت أتظاهر كنت عشان قرفان من عيشتي ومن البلد والفساد اللي ماليها.. إنما دلوقتي خلاص بقى في دم بيني وبينه.. مش هاسيبه لا هو ولا وزير داخليته ولا الضباط اللي عملوا كده.. لازم أشوفهم كلهم وهم بيتحاكموا وياخدوا إعدام بذنب الشباب اللي وقعت قدام عينيا

(بهدوء كامل)

الرجل:

وهو حد عارف مين اللي قتل مين.. دي البلد بقت فوضى على الآخر

(بحماس)

المصاب:

ماهو بسبب مين.. بسببهم .. بس مش هنسيبهم.. صاحبي شاف ضابط من الضباط اللي كانت واقفه فوق القسم بتضرب نار علينا.. واد نقيب إبن وسخة شايف نفسه.. أصل بيقولك أبوه ضابط كبير.. فاكر نفسه مخلوق من طينة تانية.. يقدر يقتل الناس براحته.. بس وحياة أمه ماحنا سايبينه.. هنقدم فيه بلاغ للنيابة وهنشوفه وهو بيتحاكم هو واللي زيه عشان يبقى عبرة 

(مستغربا)

الرجل:

ياعم إنت في إيه ولا في إيه.. مش لما تخلص الأول وبعدين نبقى نشوف هنحاكم مين

(بثقة شديدة)

المصاب:

هتخلص والله ياباشا.. أقولك.. هي أصلا كده خلصت.. إنت شفت منظر الناس وهي طالعة في كل حتة بعد مافاض بيها.. مين كان يصدق إن ده يحصل.. إنت كنت تصدق إن المصريين يطلعوا كده ويبطلوا خوف وطرمخة  

(بجدية)

الرجل:

لا طبعا.. مين كان يصدق

(يواصل حديثه الحماسي بطريقته المتدفقة التي تكسب ذلك الحديث طعما خاصا)

المصاب:

يبقى إذا كانوا طلعوا كده من غير مايتضرب عليهم رصاص حي وشبابهم تتصفى عينيهم بالرصاص المطاطي وتتفتح إدمغتهم بالخراطيش ويسيح دمهم على الأسفلت.. هيعملوا إيه بعد ماحصل فيهم كل ده.. خلاص البلد لازم تنضف يا...هوّ إسم الكريم إيه

(بهدوء)

الرجل:

إسماعيل محمد

(يضع يده على صدره)

المصاب:

أحمد بسيوني.. صحيح حضرتك بتشتغل إيه

(وهو يغير من جلسته)

الرجل:

شغال في شركة.. محاسب

إنت بتشتغل إيه 

(بابتسامة مريرة)

 

 

(ينظر له بتقدير شديد)

 

(يحكي بشجن)

 

 

 

 

 

(يتحدث بشجن شديد وهو يقلد الهتافات ولكن بصوت منخفض)

 

 

 

 

المصاب:

عاطل والحمد لله.. كنت شغال في مصنع في ستة أكتوبر بس عملنا إضراب عشان نطلب حقوقنا رفدوني أنا وزمايلي

إنت عارف ياعم إسماعيل.. اللي زيك هو اللي خلاني أطلع أصلا في المظاهرات.. أنا كنت يوم خمسة وعشرين قاعد على قهوة في القصر العيني بالعب دمنة.. قالوا لنا إن في مظاهرة قدام دار الحكمة.. قلنا نقوم نتفرج.. لقينا شوية عيال ييجي بتاع ميتين تلتمية.. بصيت في وشوشهم لقيتهم ولاد ناس.. إيه.. مستويات.. كل واحد فيهم شايل موبايل ماأحلمش بيه.. وعمالين يهتفوا عيش حرية كرامة إنسانية.. يا أهالينا انضموا لينا قبل بلدنا ماتغرق بينا.. آه ياحكومة هز الوسط أكلتونا العيش بالقسط.. قمت قايل لنفسي سبحان الله العيال دي مش عاجبها حال البلد وهم مستريحين.. ده أنا واللي زيي اللي بناكل العيش بالقسط.. مش همه.. طب ده أنا أبقى راجل عرص لو فضلت أتفرج عليهم.. قمت داخل أنا وصحابي في المظاهرة ومن ساعتها حلفت إن مافيش مظاهرة فيكي يامصر إلا لما أطلع فيها لغاية ما آخد حقي منك يابلد.. إنما إنت تبع حزب إيه ياباشا 

 

الرجل:

لا مش تبع حزب معين

(بابتسامة شجن)

المصاب:

أصل كل العيال اللي شفتها في المظاهرات طلعت بتفهم في السياسة كويس أوي.. وفهمت منهم حاجات كتيرة.. وناوي بإذن الله لما ربنا يفرجها وحسني يغور من البلد هو وعياله ورجالته أخش في حزب بس لسه مش مستقر على حزب.. إنت إيه رأيك ياباشا

(مستغربا)

الرجل:

في إيه

 

المصاب:

إيه الحزب اللي الواحد يخشه وهو مطمن

(بجدية)

الرجل:

كنت هاقولك الحزب الوطني بس خلاص  

(يضحك)

المصاب:

حلوة ياباشا.. ده أنا ليا صحابي خشوه وطلعوا كارنيهات عشان مايتعكشوش في اللجان وهم مروحين بالليل.. أنا باتكلم بجد ياباشا 

(يبدو أنه يرد بدون إكتراث وأنه يفكر في شيء ما) 

الرجل:

يعني عندك الوفد.. التجمع.. الناصري.. الغد.. في بتاع عشرين حزب في البلد.. إنما ماقلت ليش الضابط اللي صاحبك شافه ده إسمه إيه.. أصل أنا أعرف ضباط كتير في قسم السيدة 

 

المصاب:

واد إبن كلب إسمه وليد سعدة.. تعرفه

(بجدية)

الرجل:

لا ماسمعتش إسمه قبل كده.. ده باينه جديد

(بحماس شديد)

المصاب:

أنا ماعرفوش.. بس صاحبي يعرفه.. كان عايز يلفق له قضية تعاطي عشان رد عليه رد ناشف لما راح القسم بيعمل محضر لحد من الجيران .. بيقولك منقول من كام شهر.. بس إيه مطلع عين الناس وقارفها في عيشتها..بس خلاص وقع

(بجدية)

الرجل:

إيه؟ الناس مسكته

 

 

 

 

(بحماس وتصميم ويبدو أن الرجل يسمعه بحياد شديد دون أدنى تأثر)

 

 

 

 

 

(يراه يقف من مكانه)

المصاب:

وهو لو الناس مسكته هتسيبه.. ده هيقتلوه في ساعتها.. أنا عايزه يتمسك كده قانوني.. وأشوفه واقف في القفص بيتحاكم وسط الحرامية وقتالين القتلا.. ويخش السجن وهناك يتبهدل ويعرف إن الله حق عشان يبقى عبرة للي زيه

بس لو إتمسك هوه لوحده مايبقاش عدل.. لازم يتمسك هو ومأمور القسم ومدير الأمن اللي خلاه يضرب الناس بالرصاص ووزير الداخلية ورئيس الوزرا ورئيس الجمهورية اللي ساب ناس مصريين يتضربوا بالرصاص وهو قاعد في القصر بتاعه مع إنه حلف يمين إنه يحمي المواطنين ويصون دمهم.. مش الريس برضه بيحلف على كده ياباشا ولا أنا غلطان

رايح فين ياباشا

(وهو يتجه نحو باب العمارة)

الرجل:

لا هابص بس على الشارع.. عشان لو لقيت الشارع هادي.. هآخدك أوديك عند دكتور أعرفه فاتح عيادة قريبة من هنا.. بدل ماتستنى صاحبك كتير

(بامتنان شديد)

المصاب:

كتر ألف خيرك بس أنا هاستنى صاحبي عشان ولاد الكلب قاطعين الموبايلات ومش هاعرف أكلمه أطمنه عليا.. شوف إنت مصالحك ياباشا.. ربنا معاك.. بس إبقى روح بسرعة عشان كده هتاخد برد

وهو يواصل السير نحو الباب

الرجل:

هابص على الشارع الأول

يخرج الرجل بحذر وهو يتلفت حوله يمينا وشمالا وينظر إلى أعلى العمارة فيجد المكان هادئا جدا.. ولا يوجد أثر لصوت فيه.. يتجه نحو الباب.. يطل برأسه.. قطع على الباب من الخارج ونحن نراه يطل برأسه ويلتفت يمينا وشمالا فلا يرى أي أثر لأي حركة في الشارع.. بينما يستمر صوت الرصاص في الدوي في الخلفية.. يعود إلى الداخل بينما تثبت الكاميرا على الباب

بعد لحظات صمت نسمع صوت طلقتين يدويان في مدخل العمارة ونرى فلاشين ضوء يدويان في المكان.. ثم بعد قليل نرى الرجل يخرج من الباب وقد وضع على عينيه نظارة شمسية سوداء لاتبدو متسقة مع مظهره من ذلك النوع الذي يرتديه الضباط يتلفت يمينا وشمالا وهو يعيد الطبنجة إلى حيث كانت موجودة خلف ظهره، والتي كان يخفيها انسدال القميص.. (يمكن أن نراه يخرج من جيبه الرتبة التي تحدث عنها الشاب المصاب ويرمي بها أسفل سيارة مركونة في الشارع) ونراه وقد لف رأسه بالشال الذي كان يرتديه الشاب، والذي يوجد عليه أثر دماء.. وأخذ يسير بسرعة في عمق الشارع.. نرى شيش بلكونة في شقة يفتح نصف فتحة ثم يغلق بسرعة وحدة.. بينما يختفي أثر الرجل من الشارع.. ويعود الشارع إلى صمته المرير الذي تقطعه بين أصوات إطلاق الرصاص في الخلفية

 

 

 

قطع

 

 

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.