مرآة الأنام في دار السلام (3)

مرآة الأنام في دار السلام (3)

15 يوليو 2020
+ الخط -

أفاق المتوكل وقد تمثلت أمام عينيه كوارث شتى، لم يصدّق أن أباه المعتصم -ومن بعده سلفه الواثق- قد انجرّا إلى هذا الفخ، فخ التحزُّب وإتاحة الفرصة للتُّرك وحدهم باللعب في ساحة الملك. اختطفه الحلم إلى الخلف عشر سنوات (225هـ)، رأى أباه يُطلق يد التُّرك في كل شبرٍ من أرض الخلافة، ويمنحهم صلاحيات التعيين والعزل دون الرجوع إليه، وأنه منح القائدين التركيين أشناس وإيتاخ قِلادة الفرات من الدرجة الأولى.

لم يكتفِ المعتصم بذلك، بل خلع على أشناس "وشاحين بالجوهر"، وولاه على الشام والجزيرة الفراتية ومصر، ما أتاح لأشناس تعيين ولاة له في هذه الأماكن، ضمن ولاءهم له لا للخليفة. أما إيتاخ فتولى شرطة عاصمة الخلافة (سامراء) ومعها اليمن. مضى المعتصم وجاء الواثق؛ فثبّت أشناس في مركزه، وخلع عليه (228هـ) "وشاحين بالجوهر"، كأنما كان الواثق يقلّد أباه. ولمَّا مات أشناس (230هـ)، لم يجد الواثق من يملأ الفراغ إلا إيتاخ.

ورأى المتوكل في منامه "إنفوغراف" تحوّل إيتاخ إلى رجل الدولة الأول، ومن مثل إيتاخ! مدير أمن عاصمة الخلافة، وصاحب الكلمة في تولية وعزل جميع ولاة الخلافة شرقًا وغربًا، والقائد الأعلى للقوات المسلحة منها وغير المسلحة، ومدير جهاز المخابرات وقائد الفيالق عن بكرة أبيها، كم أنت محظوظ يا إيتاخ!

واستفاق من حلمه، وهو يسمع صوتًا -لم يُحدد مكانه- يترنم بقوله تعالى "ولا تميلوا كلَّ الميل"؛ فعدها إشارة لتصحيح مسار سياسة الخلافة مؤسسةً وحكومةً وشعبًا، ويجب عليه إحداث تغييرات ديموغرافية مؤثرة، تفاديًّا للتمرد التركي وضبطًا للإيقاع العام، وضمانًا لمستقبلٍ آمن لأولياء عهده.

أفاق المتوكل تتناهبه مشاعر مختلطة، تبرمٌ من صنيع سلفيه المعتصم والواثق، وغِبطةٌ لاقتطافه رأس إيتاخ وتحجيم صلاحيات التُّرك، وتنفّس الصعداء وهو ينتوي إضعاف التوغل التركي في الجيش، واصطناع ولاءات جديدة للخليفة لا للعناصر التركية، وركبه حزن ثقيل لعلمه بصعوبة التنفيذ، لكن لا بُدّ من مواصلة الخطة بأي شكلٍ كان.

D19EDD99-A584-4C84-846F-65CA0CE85122
D19EDD99-A584-4C84-846F-65CA0CE85122

محمد الشبراوي

كاتب مقال ومدون

في فورة انتقامه من التُّرك، عيَّن المتوكل نديمه الفتح بن خاقان رئيسًا لقلم المخابرات السريَّة، وخلع عليه رتبة "المختص بأخبار الخاصة والعامة في سامراء وما يليها"، وفق مسكويه والطبري، وتولى إسحاق بن إبراهيم المصعبي منصب مدير أمن سامراء، وإسحاق بن يحيى بن معاذ قائدًا لحرس الخليفة والأمراء، في حين ظلت قيادة الجيش مستعصيةً عليه، فضلًا عن الحجابة.

جرَّد الترك من المناصب الإدارية الرفيعة، وأسندها إلى ولاة عهده، وإن لم يراعِ الإنصاف، ومال إلى المنتصر بالله فخلع عليه ولاية أوسع مساحة من أخويه، وأسند إلى المعتز أخطر الولايات وأثقلها في ميزان العباسيين، والتي بزغت منها شمسهم؛ خراسان ونواحيها.

وعملًا بقولهم "الأخير ربه كريم"، فاكتفى بأن خلع على المؤيد ولاية الشام، وبهذا قلَّم أظافر التُّرك ولم تعد الولايات في قبضتهم، وأوكل إلى أولياء عهده صلاحيات الترك، وأضحت المناصب الإدارية والقضائية والتشريعية والتنفيذية كلها محرَّمة على التُّرك.

نجح المتوكل جزئيًا في اصطناع ولاءات جديدة، لكن لخطته تبعات جسام، منها أنه وضع النار في حِجره، وأذكى نيران التنافس والضغينة بين ولاة عهده

 

في الوقت ذاته، قسَّم الجيش بين أولاده الثلاثة، وأصدر أوامر نشرت في الجريدة الرسمية وعلى موقع دار الخلافة الرسمي، قضى خلاله باستقلال كل قسم، وأن يكتب اسم ولي العهد على أعلام التشكيلات العسكرية، وأن يتميز قسم كل والٍ بلونٍ ما، وألا تتداخل صلاحيات ولاة العهد، وعلى "قواد وجند وشاكرية وموالي وغلمان" كل ولي عهد الامتثال بالطاعة العمياء في التو واللحظة.

ينظر التُّرك بعين السُّخط لتباعد المتوكل عن نهجٍ اختطه أبوه، وفي مجالس سمرهم وجدهم نعتوه بالابن العاق، والشاب الأرعن الذي شق عصا الخلافة، ولن يمر صنيعه مرور الكرام، ولا يفل الحديد إلا الحديد.

لمس المتوكل من ولي عهده الأول طمعًا، وتوقع أن ينكِّل المنتصر بأخويه ولو بعد حين؛ فأخذ عليه العهود والمواثيق ألا يتعرض لهما، وأن يحسن إليهما ولا ينتزع من صلاحيتهما قليلًا أو كثيرا، وكانت موافقة المنتصر وقبوله لطلب أبيه لافتين للنظر مثيرين للريبة.

نجح المتوكل جزئيًا في اصطناع ولاءات جديدة، لكن لخطته تبعات جسام، منها أنه وضع النار في حِجره، وأذكى نيران التنافس والضغينة بين ولاة عهده، وقد يُفيد التُّرك من ذلك باستمالة ولي عهد منهم، ويتصنعون بمناصرته ويغرونه بالتخلص من أخويه، ومن ثم ينجذم حبل آل المتوكل، وتعود الأيام سيرتها الأولى؛ فترجع الخلافة لأخوة المتوكل -لا سيَّما أحمد بن المعتصم- أو لمحمد بن الواثق، ولن يجرؤ أحدٌ أن يعيد سيناريو المتوكل، وسيحافظ التُّرك على ماء وجههم ويعودون أعتى وأشد سطوة وسلطة.

أمست العلاقة بين ولي العهد وجيشه علاقة تكافل، يستفيد الطرفان منها أيَّما إفادة، بينما العلاقة بين ولاة العهد الثلاثة -وإن كانوا إخوة- علاقة "مهددة للحياة"؛ فوصول أحدهم إلى العرش يُقصي الآخريْن، ومن ثم فعلى كل جيش أن يستميت في الدفاع عن صاحبه، ولو كان ذلك على حساب لا ولي عهدٍ منافس، بل على حساب الخليفة الذي فتح هذا الباب المشؤوم، "ودقّ بينهم عطر منشم".

لو شاهد المتوكل محنة الحاج محمد أبو دياب في "الرحايا"، أو رحيِّم المنشاوي في "الليل وآخره"، لفكر ملايين المرات قبل تقسيم ولاء الجيش بين أبنائه، وها هو المنتصر يشمخ بأنفه ويستعلي على أبيه، لا غرو في ذلك فإن الكرسي "يغري ويغوي". لم يتصور المتوكل أن ينقلب السحر على الساحر، ويصطدم به ولي عهده الأول، ويتعصب جند المنتصر له ضد الخليفة؛ فهو المستقبل القريب والتمكين له يعني ارتفاعهم وعلو كعبهم على أقرانهم، ودبَّ الشِّقاق في البيت "المتوكلي" لا في البيت "المعتصمي"، والأيام ذات تصرُّمٍ وتقلّب.

لكن لماذا انقلب ولي العهد على الخليفة؟ سؤال مهم للحكم ليس على هذا الشاب فحسب، وإنما على مجرى الأمور إن آلت إليه الخلافة، والإجابة عنه تفك لغزًا لازم أصحاب الكراسي في أزمنة شتى، وسنعرض له في اللقاء المقبل.