مدخل اقتصادي إلى الاحتجاج ضد العنصرية في أميركا

مدخل اقتصادي إلى الاحتجاج ضد العنصرية في أميركا

23 يونيو 2020
+ الخط -
لا يمكن النظر إلى الاحتجاجات الحالية الناشطة في الولايات المتحدة، واتسعت رقعتها، برؤية تحليلية ثقافية، أو بوصفها انطلقت ضد عنف عنصري الطابع وحسب. صحيحٌ أنها بدأت بعد ساعات من مقتل المواطن من أصل أفريقي، جورج فلويد، على يد رجل شرطة أبيض، وارتبطت ببشاعة الجريمة التي فجرت على المستوى النفسي مشاعر الغضب والتضامن، لكن العنصرية بمظهرها الثقافي لم تكن وحدها ما بلور الحراك. ثمّة عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية متداخلة، يمثل الاقتصاد فيها عاملا أساسيا، كما كان أداة لتحليل الاحتجاجات المتواترة خلال عقدين من القرن الواحد والعشرين، والتي يبدو أن احتجاجات أميركا ستشكل محطة بارزة فيها بعد جائحة كورونا، وما تحمله من توقعات وآثار اقتصادية ثقيلة، حسب بعض التقديرات، ستتجاوز آثارها الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008، وكذلك أزمة 1929، حتى أن البنك الدولي، في تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" الصادر في يونيو/ حزيران الجاري، وصفها بأنها ستغرق الاقتصاد العالمي في أسوأ تدهور له منذ 150 عاما، متوقعا أن يكون ضمن آثارها تراجع نصيب الفرد من الناتج، وانكماش وكساد للاقتصاد العالمي، ولن تنجو الاقتصاديات المتقدمة، بطبيعة الحال، ومنها الولايات المتحدة.
يمكن وضع تحليل اقتصادي أولي للاحتجاجات الأميركية ضد العنصرية من ثلاث زوايا اقتصادية: أولاها المضمون الاقتصادي للعنصرية بوصفها ركنا مؤسسا للظاهرة، وارتباطها بتاريخ الرق والعبودية. ثانيا انعكاسات الممارسات العنصرية على الأوضاع الطبقية والاجتماعية للأميركيين من أصول أفريقية، خصوصا في ما يتعلق بأشكال العنف والقهر المتنوعة ضدهم بما فيها إعادة إنتاج الفقر، وتأتي آثار كورونا على الاقتصاد الأميركي، وتأثر قطاعات واسعة من العمالة من هذه الأوضاع المستجدّة إطارا ثالثا للتحليل.
تحمل التفرقة العنصرية على أساس العرق واللون في أميركا بعدا اقتصاديا واضحا، أو بعبارة 
أخرى، يتمظهر أحد أشكال التمييز الاقتصادي والقهر الاجتماعي في التمييز على أساس العرق واللون، لتكون العنصرية متجاورةً مع مظاهر اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية. صحيح أن الفقر والبطالة والتسريح من العمل مع كل أزمة ركود ليست خاصة بالسود، لكنهم الأكثر تضرّرا منها، بحكم عوامل التمييز العنصري ثقافيا، وأيضا بحكم أنهم يشكلون نسبة أكبر من الفقراء في أميركا. وتوضح تقارير عدة مدى التفاوت في مؤشراتٍ اقتصادية بين الملونين والبيض، بما فيها حيازة المساكن، والتفاوت في مستوى الثروة والأجور، غير مؤشرات اجتماعية، كالتفاوت في الخصائص العمرانية لأغلب المناطق التي يعيش فيها الأميركيون من أصول أفريقية، ورواسب تزول في مؤسسات التعليم، بل حتى بعض الإجراءات المالية، كالتعامل مع البنوك في حالات طلب تستند إلى قواعد تتصف بالتمييز. ولهذا التمييز الاقتصادي، أو المضمون الاقتصادي للعنصرية، جذوره التاريخية منذ الحرب الأهلية الأميركية (1861- 1865)، والتي يرجع أحد أسبابها إلى الخلاف بين الحكومة الفيدرالية (ولايات الشمال) بقيادة الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن، ومحاولات انفصالية من جانب إحدى عشرة ولاية جنوبية، رفضا لمقترحات الحكومة الفيدرالية لتحرير العبيد وإلغاء الرقّ، وهى مقترحاتٌ هددت حينها مصالح الولايات الجنوبية التي اعتمد اقتصادها على القطاع الزراعي الذي يتطلب عمالة كثيفة، يوفرها نظام الرق (تشير بعض التقديرات إلى وجود أربعة ملايين، أغلبهم من أفريقيا)، وهم بذلك يمثلون مصدرا للثراء، بوصفهم أيدي عاملة رخيصة، ولم يكن مسموحا أيضا انتقال العبيد أو هروبهم إلى الولايات الشمالية التي غلبت على نشاطها الاقتصادي الأعمال التجارية والصناعية. كانت العبودية والتمييز العنصري من موضوعات الحرب الأهلية، وتضمنت الصراع على أجساد الأفارقة ما بين العمل في معسكرات العبودية في الجنوب أو ضمن النشاط التجاري والصناعي في الشمال، كانوا الخاضعون لنظام الرق، في حال تمرّدهم أو محاولة الهرب، يسجنون في معتقلات العبيد، ويتعرّضون لأنواع من التعذيب البشع على أيدى حرّاسهم الذين كان يوكل إليهم الإشراف على العمل في المزارع، ما رسخ الصورة الذهنية لدى الأميركيين من أصول أفريقية عن ممارسات العنف والتعذيب والقتل التي يمارسها الحرّاس، ورسّخ دور القمع لدى رجال الشرطة ضد الأميركيين من أصول أفريقية، وفرض السيطرة عليهم امتدادا لجذور تاريخية من الرق والعبودية.
وتتضمن العنصرية، بشكل عام، جانبا من التمييز الاقتصادي على أسس اللون والعرق، وأحيانا 
الانتماء القبلي والديني والثقافي، كما أن تجارب العنصرية تشكل فيها بنية التمييز الاقتصادي ركنا فاعلا في الصراعات والحركات الاحتجاجية، سلمية كانت أو مسلحة، وشهدت أفريقيا حالاتٍ للنموذجين ضد التهميش والاستبعاد الاقتصادي المستند إلى العنصرية، والتي تشكل مشكلة اجتماعية وثقافية ذات جذور اقتصادية، مهما كانت أسس التمييز. من جانب آخر، تزداد أعباء قطاعات من الفقراء الأميركيين نتاج التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا، وبما أن نسبة الفقراء بين الأميركيين من أصول أفريقية أكبر، فإنهم الأكثر معاناة، وتشير تقارير دولية عديدة إلى ارتفاع في معدلات البطالة سيزداد مستقبلا، سيخسر ما لا يقل عن سبعة ملايين شخص وظائفهم، هذا غير بيانات رسمية أعلنتها وزارة العمل الأميركية عن ارتفاع معدلات البطالة (تجاوزت في مايو/ أيار الماضي 14%، وتبلغ نسبتها بين الشباب ما يقارب 25%). وما زالت الأخبار تتواتر عن تقليص العمالة، وإغلاق فروع شركات أميركية ضخمة، غير تقليل الأجور مع تقليل ساعات العمل، الأمر الذي وصفته منظمة العمل الدولية في دراسة "عالم العمل وكوفيد 19"، في مارس/ آذار الماضي، بالعمالة الناقصة، غير أن المشاهد المتكررة لطالبي إعانات البطالة (تجاوزوا 44 مليونا، حسب بيانات وزارة العمل الأميركية)، وكذلك طوابير كوبونات الطعام المجانية التي رصدتها تسجيلات مصوّرة، دليل واضح على أن الأزمة تتجاوز مدى صحة التوقعات غير المتفائلة، إلى الحالة التي أوصلت بعضهم إلى طلب الطعام، وجورج فلويد واحد من العاملين محدودي الأجر الذين خسروا وظائفهم أخيرا.
وثمّة المعرّضون لمخاطر التمييز الاقتصادي والعنف المبني على العنصرية ضمن شريحةٍ غير ممثلة سياسيا وطبقيا بشكل حقيقي داخل المجتمع الأميركي، الأمر الذي يؤشر إلى "التمثيل الغائب"، وهو أحد مشكلات الديمقراطية الأميركية. ولذا كان التظاهر في أميركا ضد العنصرية أداة لإيصال أصوات رافضة، ليس للعنصرية فحسب، ولكن لكل مظاهر التمييز الاقتصادي والاجتماعي وظواهر عنف السلطة المرتبطة بها. التظاهر وسيلة مكملة للديمقراطية، يعبر خلالها المستبعدون اجتماعيا، وغير الممثلين سياسيا، عن مطالبهم، وهي قاعدة تنطبق على مظاهرات أميركا ونماذج كثيرة من الحركات الاجتماعية التي ستشكل احتجاجات مناهضة العنصرية والتمييز عنوانا عريضا لها.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".