محمد النجّاري باي: القاضي ومعجمُه

محمد النجّاري باي: القاضي ومعجمُه

23 يوليو 2020
بطاقة بريدية من الإسكندرية من بداية القرن العشرين (Getty)
+ الخط -

كان محمد النجّاري باي (تاريخ الولادة مجهول، تُوفِّي سنة 1914)، قاضيًا في المَحاكم المُختلطة بالإسكندرية، يَقضي أوقاته في حلِّ النّزاعات وقراءة المَلفات. ومع ذلك لم ينقطع عن إنجاز مُعجَمه "قاموس فرنساوي وعربي"، الذي شرَع في جمعه سنَة 1880، بعد تخرُّجه من مدرسة الحقوق بالقاهرة والتِحاقه بكلية الحقوق بمدينة مونبلييه الفرنسية في السّنة نفسها، حيث مكَثَ "أربع سنين، منقطعًا لدراسة التاريخ والجغرافيا والمعاني في السنة الأولى، والقوانين في السنوات الثلاث التالية"، ثمّ عادَ منها في حزيران/ يونيو 1885.

وقْتها، قرّر القانوني الشابّ إتمام معجمه بالتزامن مع مهامِه القضائية. وهو ما يَدفعنا إلى التساؤل عمّا يَحمل رجلَ القضاء، المتضلّع من الفقه الإسلامي والمتمرّس بنصوص التشريعات الأوروبيّة، إلى أن يَضعَ أحد أوائل المعاجم ثنائية اللغة (فرنسية وعربية)، مُتصدّيًا إلى تعريب أكبر المعاجم الفرنسية السائدة في عَصره، وهما Le Lettré، الحامل لاسْم مُؤلّفه إيميل لتري (1801-1881)، والذي صَدَرت طبعتُه الأولى بين 1863 و1872، ومعجم بيار لاروس (1875-1817)، الذي نُشِر ما بين 1866 و1877، وكلاهما يشتمل على عَشرات الآلاف من المداخل، اجتهد النجّاري في نقلها إلى الضّاد بأمانةٍ وتفانٍ طيلة خمس وعشرين سنة، إذ أصْدَر عمَله سنة 1903، في ثلاثة أجزاء.

عمل على تعريب أكبر المعاجم الفرنسية السائدة في عَصره

وقد رتّب قاموسَه هذا على نحو ما تعاقبت المَداخل وفْقَ الترتيب الأبجدي الفرنسي وتوارد الكلمات حَسبَه. فكان يَضع كلَّ مفردة فرنسيّة ثم يُثبت ما يقابلها من الكلمات والعبارات العربية مع ذِكْر طبيعتها الصرفيّة وتعالقاتها التركيبيّة وحروف الجرّ التي تناسبها وغير ذلك من العناصر اللغويّة.

والطريف أنّه لم يكن يَختار المقابلات العربية من سجلِّ الفَصيح فَحسب، بل كان يَسمح لنفسه باقتراح ترجماتٍ من العامّيات الشرقيّة (المصريّة أساسًا والشاميّة)، في مَزجٍ لطيف بين وجهَيْ الضاد، مؤكِّدًا كليَّتها وأنْ لا تفكُّكَ بين سِجلَّيْها وقد تكامَلا في نقل لغَة فولتير. 

كما كان يَمزج المُقابِلات مقدِّمًا عن كلّ معنىً جدولاً تنتمي وحداته إلى مُستويات متفاوتة في اللغة، كَتَرجمة Demoiselle بـ: مَنْدالَة، كَريمة، ناهد ومُعْصر... وهو ثراءٌ لافت يظهر فويرقات المعنى، بحسب السياق الاجتماعيّ وسجلّات الخِطاب المتغايرة. كما يضع النجاري جداول نحويّة للضمائر التي يَعرض لها ويفسّر القواعد بإيجاز. 

الصورة
قاموس فرنساوي وعربي - القسم الثقافي

كما أنه وَضع اليد، وربما للمرة الأولى، على الكلمات الفرنسية ذوات الأصول العربية والفارسية والعبرية والتركية، وأشار إليها بنجمةٍ، ضمن مُعجَمه، حتى يُذكِّرَ، في تأثيليّة غير مؤكّدة أحيانًا، الأصولَ الأجنبيّة لمئات المفردات الفرنسية.

ولم يُغفل النجّاري، بِحكم تكوينه القانوني، الإشارةَ إلى المضامين القانونية التي تَحملها المصطلحات المختصّة، ولكن دونَ الإفاضة في تَفصيل تلك المضامين الفنّيّة، علمًا أنّها نابعة من مَجلّات التشريعات الفرنسيّة، ويَعسر وقتَها إيجاد المقابلات الدقيقة لها. 

وعلى غِرار علماء اللغة القُدامى، كان النّجّاري يدلّل على المعاني بإيراد شواهد من القرآن والشعر العربي، الراقي والشعبيّ، كسياق ممكنٍ لتلك المَعاني. كما كان يورِدُ بَعض القصائد والمقطوعات التمثيليّة التي تَرجمها عُثمان جلال (1828-1888)، رائد المسرح المصري، عن أمثولات لافونتين، وذلك بمناسبة وُجود مفردةٍ ما في مطلع أبياته مع ذكر الأمثولة الأصليّة. فعندما يأتي إلى كلمة Phébus مثلاً، آلهة الشمس، يورد قصيدة: اجتمعَ الشمس والريح معًا...

يَعود إليه فضلُ الإسهام في حركة التوليد المعجمي

هذا، ويَعود إليه فضلُ الإسهام في حركة التوليد المعجمي، التي نَشطت مَطلعَ القرن العشرين، إذ كان في اتصالٍ وَثيق بمثقفي عصره من أصْحاب العلوم، يُسَجّل عنهم ما اتفقوا عليه من مصطلحات متخصّصة. ومن طرائف ذلك نقل مفردة Démographe التي تَرْجَمها: "واصف البَشر"، وهو توليدٌ لَم يَصمدْ رغمَ رشاقته، حيثَ سادَ المُقتَرَض "ديمغرافي". 

وهكذا، لا يُقرأ هذا التصنيف كَمعجمٍ فقط، بل كَأثَرٍ ثقافيّ يؤرّخ لطورٍ انتقاليّ من أطْوَار اللغة العربية، حين كانت تبحث عن طريقها وسط غابة الحَداثة الكثيفة وتتلمّس سبلاً مُتعرّجة في تَسمية أشياء العالم ومفاهيمه. ولعلَّ من بين فَرضيات البَحث البِكْر، في هذا المعجم، إحصاءُ الكَلمات التي بَقيت مستخدمةً في أيامنا، وتمييزها عن تلكَ التي هَجرها الاستعمال وصارتْ من المُتقادِم المُهمل. وكذلك البحث في المولّدَات التي صَمَدت شاهدًا على إسهام النجّاري في تطوير الضاد عبر آلية الترجمة.

وفي الحقيقة، لا نعتبر هذا التعريبَ مسخًا أو طمسًا، بل رافدًا ناعمًا غذّى لغتَنَا من الداخل، مَع عزوفٍ مَبدئي عن الاقتراض الصوتي، مع أنّه من الحلول أسهلها، ولم يكن يَلجأ إليه إلّا في نادر الحالات. وهو ما يشهد أنَّ الزواج بين القَضاء والمَعْجَمَة كان شرعيًّا، آتى من الثِمار اللغويّة أعذبها.

المساهمون