محمد البرادعي: جميل أنت في المنفى

محمد البرادعي: جميل أنت في المنفى

28 يناير 2015

البرادعي أثناء ثورة يناير في ميدان التحرير (30يناير/2011/Getty)

+ الخط -

جميل أن يعترف الدكتور محمد البرادعي، الآن، بأنه جرى استعماله، أو بتعبير أكثر تهذيباً، جرى استغلاله، في انقلاب الجيش، في صيف 2013، على ديمقراطية مصر التي ولدت عقب ثورة كان هو أيقونة من أيقوناتها.
وجيد جدّاً أن يتذكّر البرادعي أنه لا مستقبل لمصر من دون التخلي عن جنون إقصاء الإسلام السياسي الذي هو أحد مكونات الحالة السياسية والمجتمعية والحضارية فيها.
مدهش أن يخرج البرادعي عن صمته، ويبوح بالمكتوم في صدره، منذ فراره من مستنقع الدم الذي تورطوا وورطوه فيه، ولن نقول، إنه تحدث متأخراً، أو سكت عن قول الحق وقتاً أطول مما يجب. يحسب له أنه نفض يديه، وانسحب من عرس الدم مبكراً، مبتعداً عن مسرح الجريمة، عقب مجازر محو المعتصمين، ولم يصبه تلوث ولوثة ذلك الصنف من الليبراليين الذين يطربون لدم ويفزعون لآخر.
اثبتت التجربة أن البرادعي عن بعد أفضل وأوثق صلة من قيم وأفكار ومبادئ كانت في القلب من ملحمة ثورة المصريين في عام 2011. يبتعد عن مصر، فيسافر فيها على نحو أعمق. وإجمالاً، يمكن القول، إن البرادعي، كضمير مستتر في فضاء المعنى والفكرة والقيمة، أفضل من اسم حاضر في أرض الممارسة والصفقة وحسابات المكسب والخسارة.
لقد صار البرادعي عاديّاً، وفقد كثيراً من هيبته، حين انخرط في واقع مبتذل، جره إليه سماسرة الابتذال السياسي في مصر، وقد بحت أصوات تحذره، في وقت مبكر، من التضحية بالحلم (وإن كان عصيّاً على التحقق) لصالح الواقع، وإن كان مضمون الربح.
قلنا، مبكراً، إن الثورات ليست شققاً سكنية. وبالتالي، لا يمكنك أن تفتح ثورتين على بعضهما، وتسمى ذلك وحدة ثورية.
وكما لا تستطيع أن تضع خالد سعيد وحبيب العادلي في خانة واحدة، لا يمكن منطقياً أن يكون حاصل جمع "بتوع المنصة والعباسية" مع متظاهري التحرير (قبل أن يتلوث) كتلة ثورية جديدة. وكذلك لا يمكن أن تتسع لافتة ثورية واحدة لصور البرادعي (على سبيل المثال) وعمر سليمان وحسين طنطاوى وسامي عنان.
فالذي حدث أن أشخاصاً ممن تربوا وترعرعوا على هتافات جرى نحتها في ذروة التلمظ الفلولي من ثورة 25 يناير، وتجلت في مظاهرات كرتونية، تهتف بحياة العسكر، التحموا بآخرين يدركون جوهر أهداف وشعارات ومبادئ هذه الثورة، عبر وسائط من عشاق البيادة القدامى، في مظاهرة واحدة.
وكان طبيعيّاً أن يحدث الصدام بين شعارين، أحدهما مالح والآخر لا يزال محتفظاً ببقايا عذوبة ثورية واضحة، على الرغم من محاولات الوسطاء والسماسرة لفتح جسر بين الثورة المضادة والثورة الحقيقية.
 
 إن التاريخ القريب يقول، إن ثورة يناير كانت المتمم لفورات غضب واحتجاج، شارك فيها كل ألوان الطيف السياسي، كان يجمعهم عنصر واحد، هو الإصرار على التخلص من نظام مبارك. ولذلك، تأسست كيمياء الثورة على عناصر من اليساري واليميني والليبرالي والإسلامي، توحدوا ضد "المباركية".
 ويذكر التاريخ، كما يذكر البرادعي، أن المليون مواطن الأول الذي أصاب دولة مبارك بالتصدع كان قادماً من حملة المليون توقيع على مطالب التغيير، والتي لا يستطيع أحد إنكار أن نحو ثلثي هذا الرقم جاء من حشد جماعة الإخوان المسلمين للتوقيع عليه.
يعترف البرادعي، في حديثه للصحيفة النمساوية، بأنه جرى استخدامه ستاراً في عودة الدولة العسكرية، بكل عنفها وتوحشها، ثم يقول "في مناخ العنف، لا يكون لشخص مثلي دور. لذا، رأيت أنه من الأفضل مغادرة مصر. لذا، عدت إلى فيينا".
عاد البرادعي إلى فيينا، كما عاد إلى البرادعي إلى نفسه أيضاً، وتحدث كما لم يتحدث من قبل، غير أن هذا ليس كل المفروض، أو المطلوب، منه. عليه قبل كل ذلك أن يتذكر التعاقد الروحي بينه وبين جماهير صدقته وآمنت بأفكاره، واعتنقت حلم التغيير كما ساهم في صياغته وبلورته قبل ثورة 2011.
لقد كلفنا ابتعادك عن الحلم واستسلامك لواقعهم القبيح الآلاف من الأنفس التي وقعت على بيانك من أجل التغيير. هؤلاء يستحقون ما هو أكثر من حوار عابر في صحيفة نمساوية، تعترف فيه بالتورط في أكبر عملية خداع مورست على المصريين.


 

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا