محبّو الإنسانية الجدد وسياستهم الملغّمة

محبّو الإنسانية الجدد وسياستهم الملغّمة

13 سبتمبر 2016

بيل غيتس في مهرجان موسيقي بباريس لمرضى الإيدز (26/6/2015/Getty)

+ الخط -
في وسط هذا العالم الهائج بكل أنواع الاختلالات السياسية والاقتصادية والأمنية الخطيرة، والتي تنتج حروباً وكرنفالات دم، لا نهاية لها على ما يبدو، وبخاصة في عالمنا العربي والإسلامي الذي تحوّل إلى بؤرة مركزية متجدّدة للصراعات الدولية بأبعادها الاستراتيجية الكبرى، خصوصاً بعد نهاية الأحادية القطبية، بمعناها القاطع الكاسح، وبروز قوى دولية مناوئة للولايات المتحدة، تتقدمها، طبعاً، روسيا الاتحادية ومن خلفها الصين.
في وسط هذا العالم المعولم، والذي تزداد فيه معدّلات الفقر والجوع والمرض والبطالة، وحتى الجهل والأميّة، تبرز "سياسة هجينة" أو "عجيبة غريبة" من نوع آخر، بإمكاننا أن نطلق عليها "سياسة محبّة البشر"، يضطلع بها نفر من رجال الأعمال ومشاهير الفنانين، ممن تفوق ثرواتهم الدخل الوطني لدول بحالها. ومن هؤلاء الرجال وارن بوفات، الرجل الأغنى في العالم بعد بيل غيتس؛ حيث أعلن أنه سيهب 44 ملياراً من الدولارات (85 % من ثروته) إلى مؤسسة غيتس نفسها، وهي المنظمة الخيرية الأهمّ في العالم.
أما صاحب ميكروسوفت، فقد عبّر عن نيته إعطاء مزيد من الوقت لأعماله الخيرية، بخاصة لمكافحة البؤس والمرض في البلدان الفقيرة. وتكرّس هذه المؤسسة معظم مواردها لتطوير الزراعة (خصوصاً من خلال نقل التكنولوجيا وإعطاء قروض للفلاحين)، ولتحسين الظروف المالية للمعوزين (من خلال التأمينات والقروض وسبل التوفير)، وللتربية (من خلال بناء المكتبات وتجهيزها بالكومبيوترات)، وللتلقيح ضد الأمراض.
وينوي بيل غيتس أن يصرف 95 % من ثروته (50 ملياراً من الدولارات)، قبل موته، حيث أن الأعمال المشتركة لوارن بوفات وبيل غيتس، تمثّل ما يعادل الدخل الوطني لأيرلندا الجديدة، وحيث أن الرجلين ليسا أنانيين، بل يمثلان أروع صورة لجيلٍ جديدٍ من محبّي البشر؛ والتي يعلن كل من تيد تورنر، مؤسس شبكة CNN الأميركية الإخبارية، أو لاري بيج وسيرجي برين صاحبي "غوغل"، أنهم ينتمون إليها.
ولا يقتصر إحسان الأغنياء على أصحاب المليارات من رجال الأعمال، فجماعة موسيقى البوب وغيرها من المشاهير قد لحقوا بالركب الدولي المهتم بمصير البشرية جمعاء، والرغبة في التأثير على المؤسسات الدولية ورؤساء الدول الكبرى، فقبل أعوام اختارت مجلة تايم الأميركية "شخصيات العام"، مثل الثنائي غيتس وبونو، والمغني الشهير في مجموعة U2؛ ووجد مغني الروك مكانه في هذا الثلاثي من "المحسنين الطيّبين" لمساهمته الحثيثة في إقناع زعماء مجموعة الدول الثماني بشطب ديون 18 بلداً الأكثر فقراً في أثناء مؤتمر غلينغلرا في اسكتلندا.
وبعض كبار رجال السياسة يضحّون أيضاً لأجل "محبة البشر"، فـ"مبادرة بيل كلينتون الشاملة"، التي أطلقها في نيويورك في العام 2005 تجمع زعماء كبار الصناعيين ومالكي وسائل الإعلام الذين يسهمون بقدرٍ لا يستهان به، سواء من ثرواتهم أم بتسخير نفوذهم، لأجل الدفاع عن قضايا إنسانية محقة. وقد جمعت "مبادرة بيل كلينتون الشاملة" مبالغ ضخمة بلغت أكثر من 7 مليارات دولار من أجل مشاريع مختلفة، مثل تنمية الطاقات المتجددة في البلدان الفقيرة، دعم الإذاعات الأهلية في أفريقيا الغربية أو شراء المواد الطبية لعيادات ريفية في الصين. كما أن بول شيرفنتس، مدير "مركز الثروة ومحبّة البشر" في معهد بوسطن، يتحدث عن "وكلاء عظام" للدلالة على هؤلاء الأفراد الذين يستخدمون مهاراتهم وشبكاتهم من أجل تنشيط المساعدة الخاصة. إن الرأسمال الشخصي للأغنياء والمشاهير غدا بالحتم عاملاً مهماً في العلاقات الجديدة بين الشمال والجنوب.

من جانب آخر، يرصد علم الاجتماع السياسي هذه الظاهرة، ويحلّلها في ضوء المشهدية السياسية العامة والمضطربة للعالم؛ فيرى، مثلاً، فيكتور آرموني، وهو عالم اجتماع سياسي فرنسي معروف، أن هذه الظاهرة ترتبط بمسار العولمة، خصوصاً مع "عولمة التضامن" التي برزت، وبأعلى الدرجات، تجاه ضحايا "تسونامي" في يناير/ كانون الأول 2004 أو ضحايا "إعصار كاترينا" في أغسطس / آب 2005. لكن ارتقاء محبّة البشر هو ثمرة التطوّر لجيل بأكمله، شهد الأنانيات التي تفشّت في السبعينيات، والجشع الذي سيطر في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت، فانتقدها بالكلمة وبالفعل الملموس على الأرض.
وعلى الرغم من أنه يثير الحماسة من النظرة الأولى، فإن هذا المفهوم لعالمٍ أكثر تضامناً، وأكثر اهتماماً بالمحتاجين، ليس بعيداً عن بعض الإبهام. وهذا الكرم ليس، بادىء ذي بدء، من دون علاقة مع الدفاع عن مصلحة الواهبين، مؤسساتٍ كانوا أم أفراداً. وتشارك الهبات باستراتيجية ضريبية، حيث تعتبر أرباحها جوهرية في بلدٍ تُعفى فيه الضرائب، وتسهم بذلك في تدنّي موارد الدولة. وتوضح نتائج تحقيق قام به البنك الأميركي في العام 2006 لدى العائلات التي تملك أقل من ثلاثة ملايين دولار سيولة، وجهة النظر هذه: نصف الذين شملهم التحقيق كانوا سيخففون هباتهم، لو أنهم لم يعفوا من الضرائب؛ لكن ذلك ليس هو الأساس، فالمنظمات الخيرية المهمة تقوم بممارسات مقلقةٍ، بالنظر إلى قيمها الأخلاقية ذاتها. والتحقيق الذي أجرته مجلة لوس أنجليس تايم كشف الاستراتيجيات المشبوهة لمؤسسة غيتس، إذ توزع كل عام 5% من أموالها للتهرّب من الضرائب، بينما تعيد استثمار الـ95%، من رجال أعمال مكلّفين بالسهر على النمو الثابت لرأسمالها، من دون إعطاء أي توجيه حول القيمة الأخلاقية لهذه الاستثمارات. واكتشف صحافيو "لوس أنجليس تايم" أن هذه المؤسسة تملك أسهماً في مؤسساتٍ غير مهتمة بالمسؤولية الاجتماعية، بينها ثلاث من الأكثر تلوثاً في كندا والولايات المتحدة، هي: "كونوكوفيلبس" و"دوشميكال" و"يتكو". إضافة إلى ذلك، يطرح "إحسان الأغنياء" أسئلة سياسية جوهرية، طالما يظهر في حال انسجام مع مرحلة الموجة الأيديولوجية الليبرالية. ونظراً للتراجع الاجتماعي للدولة، وحذر المواطنين تجاه النخب السلطوية، فقد أصبح "المجتمع المدني" مفتاح التنمية؛ فالمبادرات "الخاصة" المستقلة المحليّة أفضل من البرامج الوطنية المركزية، والتي تخضع لعلاقات القوى السياسية. أصبحت الإدارات السياسية مراكز للفساد والتبذير، بينما تتمتع مؤسسات المجتمع المدني بصورة حيوية، إبداعية وبراغماتية سليمة.
وحقيقة القول إن هذه المنظمات تتمتع بالشفافية والمسؤولية، كما تعزّز المواطنية. ومن جهة حسابية صافية، غالباً ما تتيح هذه المؤسسات بزيادة تأثير المساعدة على البلد المخصّصة له، وذلك بتخفيف تكلفة التشغيل والعمل مباشرة إلى جانب المستفيدين. وكيف لا نندهش عندما نعلم أن المؤسسات الشمولية جعلت من هذه المنظمات المُحاور المميز في سياستها الخاصة بالمساعدة؟. لكن، عندما تجري المساعدة، وتحديداً الخاصة منها، ثم العامة، يساعد ذلك على تطويق مؤسسات الدولة ضد كل المخاطر التي يمكن أن تحملها هذه الاستراتيجية، ليس لأن هذه المؤسسات متعلقة بالمانحين فقط، أي أنها أكثر عرضةً للضغوط التي قد تفرضها عليها بعض "القيم"، وأن تعترف ببعض "الأولويات"، أو تتبنّى بعض "المفردات"؛ لكن أيضاً لأن المؤسسات الغربية تتحفّظ في مساعدة المجموعات المسيّسة، أو التي تبدو كذلك، وتحثّ، بالتالي، على عدم تسييس العمل الاجتماعي. بهذا المعنى، يمكن أن تسهم محبّة البشر، الشاملة والجديدة، في تآكل المؤسسات العامة في بلدان الشمال، مقدمة إلى الحكومات بذلك ذريعةً للتهرّب من مسؤولياتها في موضوع المساعدات. فهي، باختصار، تساعد على خصخصةٍ متزايدة للتنمية، والتي يصعب أيضاً تحديد نتائجها.

A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.