ما أردأ الحياة خلف كمّامة

ما أردأ الحياة خلف كمّامة

15 مارس 2020
+ الخط -
لا أدري أي قدرٍ ساخر وضعني على أفواه العرب، أنا التي أكمّم اليوم أفواهًا طلّقت التكميم منذ قرن على الأقل، فوجدت بي تلك الأفواه الطليقة فرصةً لاستراحة المحارب والتقاط الأنفاس. أما أن أُزجّ هنا على أفواه أدمنت التكميم فذلك ممّا يفطرني غيظًا، ويجعلني أعيد النظر في المهمة الأساسية التي صنعت من أجلها.
يتفاقم غيظي، أيضًا، حين ألمح تلك السعادة التي تطبع وجوه المسؤولين العرب، حين يزعمون حرصهم على صحّة شعوبهم، ويبرهنون على هذا الحرص المفتعل باستيراد أضخم قدر من الكمّامات، واستنفار مصانعها في بلادهم، وتوزيعها مجانًا على قاعدة "لكلّ مواطن كمّامة"، وكأنهم وجدوا في زمن "كورونا" فرصة ذهبية لترسيخ الكمّامات بقرارات رسميةٍ مبرّرة، ومشفوعة بالخطر الذي يتهدّد العالم برمّته.
غير أن المفارقة التي تطفئ غيظي، وتحوّله إلى سخرية مرّة، تبرز كلما رأيت ذلك الهلع الذي يستبدّ بالمواطن العربي، تساوقًا مع "الهلع العالمي"، وكرم حكوماته، فيلجأ هو الآخر إلى التخفّي خلف كمّامةٍ مرئيّةٍ للعيان؛ ليبرهن، ولو من قبيل المحاكاة، أنه عضوٌ منفعل ومتأثر بالهمّ العالمي الذي لا يقيم له وزنًا إن مرض أو جاع أو نفق حتى.
كنت أودّ أن أقول لهذا المواطن المحموم بالبحث عني في الصيدليات والمتاجر: تريّث برهة، فلا حاجة لك بي؛ لأنك مكمّمٌ منذ ولادتك بكمّامات غير مرئية، لكنها منيعةٌ وحصينةٌ ضدّ سائر "فيروسات" الحرية والعدالة والديمقراطية التي يخشاها طغاتك وحكوماتك. حريّ بك أن تنزع الكمامات، بدل أن تتكمّم بها؛ فمعضلتك الحقيقيّة في نزعها لا في وضعها.
أدري أن من الصعب على كمّامةٍ مثلي أن تكون لسان حالٍ لمن لا لسان له، غير أني سألعب هذا الدور المعكوس، ولو مرّة في حياتي، قبل أن تتحزّم هذه الأفواه الصامتة والمناخير البائسة بي؛ لأقول: "ليت كورونا تكون آخر هموم الإنسان العربي، لا أوّلها؛ ذلك أن قائمة أولوياته باتت مقلوبة تمامًا، بفضل أيادٍ أتقنت القلب كما أتقنت التكميم، حتى غدت الحرية في عرف الإنسان العربيّ ضربًا من البدع الدخيلة التي يُراد بها تشويه الدين والأعراف والتقاليد المطمئنة إلى كمّاماتها، كما غدت الكمّامة وسيلةً للتواري من مسؤوليات شعبية عديدة، ليس أولها الاحتجاج على صفقة القرن، ولا اتخاذ القدس عاصمة لإسرائيل، ولا السكوت عن جرائم جنرالات وأد الربيع العربي، ولا حتى المطالبة بأدنى الحقوق البديهية.. أليست كلها استحقاقاتٍ تتوارى خلف الكمّامات؟ في حين يتغافل العرب كلما حاولنا تذكيرهم بما كان شاعرهم يردّد: "من لم يمت بالسيف مات بغيره"، فقد غدت كورونا سبب موتهم الوحيد، على الرغم من أنهم دفنوا آلاف الجثث في مصر واليمن وسورية وليبيا وغيرها.. ذلك ما تبديه الحياة خلف كمّامة.
هو سوء طالع، كما أسلفت، ولكم بعد ذلك أن تتخيّلوا هذه المفارقة: مجاميع بشرية تتزاحم في الشوارع وأبواب الصيدليات، لا بحثًا عن حقوقها الأساسية، بل عن "كمّامات" تزيدها خرسًا وتغاضيًا عن أوبئةٍ أخرى تفتك بها صباح مساء. وفي المقابل، يستجيب المسؤولون لهذا المطلب، تحديدًا، لأنه يلقى هوىً في نفوسهم، بوصفهم متيّمين بخرس شعوبهم وصممهم، حتى وإن بدا ظاهر الأمر مقاومةً لكورونا أو غيرها، فالكمّامة بالنسبة لهم أداة قمع محوريّة في قائمة أدواتهم التي أفرطوا في استخدامها، إلى جانب السياط والهراوات والغازات وغيرها.
أصارحكم القول، بلساني هذه المرّة: لم أتوقع يومًا أن تحطّ بي الرحال في أرض العجائب هذه، لأغدو أنا (الكمّامة) مطلبًا مشتركًا بين القامع والمقموع. أعني أنني لم أكن أودّ أن أكون كمّامة سياسية، بل محض كمّامة طبيةٍ وحسب، لكن ما الذي في وسعي فعله حيال شعوبٍ تلهث إلى الصيدليات بحثًا عني، خشية موتٍ يطاردها في كل الأمكنة؟.. سألعن نفسي هذه المرّة، وأردّد: ما أردأ الحياة خلف كمّامة.

دلالات

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.