ماذا تخسر فرنسا في انقلاب مالي؟

ماذا تخسر فرنسا في انقلاب مالي؟

05 سبتمبر 2020

جنود ماليون في باماكو عاصمة مالي في اليوم التالي لإطاحة الرئيس (19/8/2020/فرانس برس)

+ الخط -

يتحدّث المتخصصون بشؤون السّاحل الأفريقي عن قرائن لهزائم متتالية لفرنسا، تشمل أعمالا إرهابية، فقدانا للسيطرة على مثلث مالي/ النيجر/ بوركينافاسو، انقلابا في مالي، ازديادا في أعداد ضحايا من جنودها في عملياتٍ عسكرية، هجمات على فرنسيين يعملون لفائدة جمعيات حقوقية، ويعتبرون ذلك كله فشلا ذريعا لإستراتيجيتها، فهي لم تنجح في كبح جماح الإرهاب، كما لم تنجح في استمالة الشعوب الأفريقية في المنطقة إلى منطق إدارتها الأزمات التي هي من اختلقتها من وحي إرادتها الإبقاء على مستعمراتها السابقة تحت سيطرتها، وعلى الأصعدة كافة.

تتسارع الأحداث في السّاحل. ولكن، على الدّوام، منذ عقود، بالقتامة نفسها للظروف، حيث بقيت الدُّول الأفريقية منهارة، بكل ما يحمل الوضع من معنى، وتزداد الأمور، اضطرادا، مع بقاء فرنسا موجودة، بأكثر من وجه، وبقوّة، اقتصاديا، بفرضها عملة الفرنك الأفريقي، وبتوجيهها الاقتصاديات الساحلية نحو اقتصاد الكفاف، أي الاقتصاد الذي يخدم مصالح فرنسا الاقتصادية، المرتكز على المنتج الواحد الموجّه للتصدير، دبلوماسيا حيث إن السفير الفرنسي هو الشخصية السياسية الأكثر تأثيرا في الأوضاع وبصفة علانية، سياسيا بفرضها مسارات وسياقات محدّدة، لا يمكن للدول الساحلية الخروج عليها، وكأنها ما زالت تحت نير الوجود الفرنسي الاستعماري السابق، ودفاعيا/ أمنيا، بربطها تلك الدول الهشّة باتفاقياتٍ جعلت منها مقاطعاتٍ تابعة لباريس في إطار ما أصبحت تعرف بــــ"السياسة الأفريقية لفرنسا".

رشح عن الانقلاب في مالي أنّ قائده قام بالعملية لصالح المصالح الاستخباراتية الأميركية، ما يعني أنّ المنطقة على أعتاب اللُّعبة السياسية – العسكرية نفسها في ليبيا

يأتي انقلاب مالي ليكشف مؤامرات فرنسا الدّائمة على المنطقة السّاحلية – الصحراوية، حيث إنّ التدخل السافر في شؤون دول المنطقة لا يخدم أيا من الاستراتيجيات إلا تلك التي تنافح عنها فرنسا، باعتبار إدراكها أن المنطقة، برمتها، منطقة نفوذ تستحلّ فيها ما تريد، حتى ولو ضحّت بشعوب المنطقة ودولها، وهو ما نراه ماثلا أمام أعيننا، في الفترة التالية على الانقلاب الذي وقع في 2012، واستدعى تدخّلا فرنسيا في إطار عمليتين عسكريتين، لم تنجح أيٌّ منهما في فرض الاستقرار، أو إقرار القضاء على الإرهاب والمناطق الرّمادية (مناطق تغيب فيها سيادة الدولة والقانون)، كما أنّها لم تنجح، قط، في إعادة التوازن إلى الاقتصاد، وبعث عجلة التّنمية لتبقى المنطقة متخلّفة، غير مستقرّة، وفي حاجة ماسّة للتدخل الفرنسي، وهو عين تلك الإستراتيجية التي أدّت، مرّة أخرى، بالمنطقة، لتعرف انقلابا آخر، قد يزيد من نفوذ جماعات الإرهاب والنشاط غير القانوني ذي الضرر الأكيد على الساحل وجواره، شمال القارّة وغرب المتوسط. 

وما يزيد الطين بلّة، وفق الأخبار التي رشحت عن الانقلاب في مالي، أنّ قائده قام بالعملية لصالح المصالح الاستخباراتية الأميركية، بما يعني أنّ المنطقة على أعتاب اللُّعبة السياسية – العسكرية نفسها التي نشهدها في ليبيا، ما يؤكّد، مرّة أخرى، أيضا، الارتباط الوثيق بين ما يحدث في ليبيا والأضرار المُتوقّعة على تمدّد عدم الاستقرار في السّاحل، وذلك كله على خلفية خلافٍ في التصرّف بشؤون المنطقة بين الولايات المتحدة وفرنسا، ومن دون الاكتراث بتداعيات ذلك، كلّه، على المنطقة برمّتها وكأنّنا، واقعيا، أمام خريطة للفوضى تمتدّ من شرق المتوسّط (خلافات تركيا مع اليونان والرهانات الطاقوية) إلى أعماق منطقة الساحل (انقلاب مالي، وتمدد عدم الاستقرار إلى المثلث المذكور بين مالي/ النيجر/ بوركينافاسو) مرورا بشمال القارّة (ليبيا)، وهي خريطة تحمل، في طياتها، نذر عدم استقرار مزمن، وقد تكون العمق الحقيقي لقوس الأزمات المعـروفة، والذي شكّل أساس العقيدة الإستراتيجية الأميركية، والممتد، جيوسياسيا، من باكستان إلى حدود المغرب، أو ما يُعرف بالشرق الأوسط الكبير، بالإدراك الأميركـي، وبتصوّر مضمون الفوضى فيه، وفق المفكر الراحل برنارد لويس، حيث اتخذه أساسا لرسم خريطة تفاعلات الفوضى في العالم العربي - الإسلامي.

يمكن الحديث عن خسائر فرنسا التّي تزداد وضوحا مع انقلاب مالي، وهي على أكثر من مستوى، لعلّ أبرزها فشل فرنسا في القيام بمهام الدفاع عن الساحل، ما يفتح الباب، واسعا، أمام "أفريكوم"، الذّراع العسكرية الأميركية في القارّة الأفريقية، للتدخل وتعويض الفشل الفرنسي. كما يدلّل، من ناحية أخرى، على عدم قدرة أوروبا على بناء قدرات أمنية - دفاعية ذاتية أو الإعلان الرسمي عن فشل السياسة الأمنية الدفاعية الأوروبية بقيادة فرنسية، أساسا، في أوروبا، وفي الفضاء الجيوسياسي الذي تدرك القارة العجوز أنه عمقها الاستراتيجي. 

وقد تتمثل الخسارة الأخرى، المرتبطة بفشل فرنسا دفاعيا وأمنيا، في فتح الباب أمام فكّ ارتباط منطقة السّاحل، في الميدان الأمني، بصفة أساسية، ثم في الميادين الأخرى، وخصوصا الاقتصادية، مع فرنسا، وتوسيع خيارات دول المنطقة في البحث عن استراتيجيات بديلةٍ عن خيارات فرنسا الفاشلة.

استمرّت باريس في مسار العناد مع الحقائق الإستراتيجية، لتجني، في الأخير، هزائم متتالية

قد تكون الخسارة الثالثة المساس بما تحاول فرنسا ترويجه أنه رؤية الرئيس ماكرون الجديدة للعالم، أو مكانة فرنسا الجديدة فيه، حيث إنّها تتراجع في كل الفضاءات التّي ظنّت أنّ لها نفوذا فيها، وخصوصا القارة الأفريقية، على خلفية استفاقة دول القارة، ورفضها المتزايد الوجود الفرنسي، سواء الاقتصادي، بمشروع استبدال الفرنك الأفريقي بعملةٍ أخرى تنهي السيطرة الاقتصادية الفرنسية، أو الأمني/ الدفاعي/ السياسي بخياراتٍ غير تلك كانت فرنسا تفرضها على الدول الفرنكفونية في أفريقيا.

هناك مستوى آخر من الخسارة الإستراتيجية الفرنسية، والتي طاولت شمال القارة، أي المغرب العربي، من جرّاء تجاهلها المستمر الشراكة مع دول المنطقة، حيث سعت إلى بناء إستراتيجية ساحلية – صحراوية، بعيدا عن مشورة (ورأي) الجزائر والمغرب، أكبر دولتين في شمال أفريقيا، وحاولت الاستعاضة عنهما بالاعتماد على دول أخرى، أقل قدرات عسكرية، لترتكز عليها في محاربة الإرهاب والتعاون الأمني، على الرغم من ارتباطها، منذ قرابة ثلاثة عقود، مع المغرب العربي، بتعاون أمني في إطار "منتدى 5 + 5"، الذي يجمع دول ضفتي المتوسط من الشمال (فرنسا، مالطا، إيطاليا، إسبانيا والبرتغال)، ومن الجنوب (الجزائر، المغرب، تونس، موريتانيا، ليبيا).

ارتباك استراتيجي وقعت فيه فرنسا، حيث توقعت أنه سهل عليها إعادة التموقع الاستراتيجي

لم ترغب فرنسا في التعاون الأمني، بكل ما يحمل المفهوم من معنى ومضمون، مع المغرب العربي، وتدخلت في مالي في 2012، ثم أصرّت على التصوّر والإدراك نفسه، بإنشاء مجموعة G5، أي جيوش الدول الساحلية من بوركينا فاسو، تشاد، مالي، النيجر، وموريتانيــــا، وذلك على الرّغم من علمها أن تلك الدول تعاني من مشكلاتٍ هيكلية، ستحتاج إلى أكثر من العتاد والتكوين/ التأهيل العسكري الفرنسي، ولكنها استمرّت في مسار العناد نفسه مع الحقائق الإستراتيجية، لتجني، في الأخير، تلك السلسلة من الهزائم المتتالية، بل لينتهي الأمر بانقلاب مالي أخيرا الذي توّج كلّ الفشل الذي تحاول قيادات عسكرية فرنسية فهمه، لامتصاص تداعياته على الوجود الفرنسي في القارّة.

هناك ارتباك استراتيجي حقيقي وقعت فيه فرنسا، حيث توقعت أن من السهل عليها إعادة التموقع الاستراتيجي في أفق التغييرات التي يشهدها العالم، ولكن ما صادفها أنها لم تستطع إحداث الفرق، حتى في فضاء عسكري تعرفه، تمام المعرفة، وهو حدث استراتيجي كبير لمستقبل حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يتصدّع، شيئا فشيئا، بفعل ذلك الارتباك، وعلى أكثر من ساحة انطلاق من ليبيا، ووصولا إلى شرق المتوسط، حيث تناور باريس مع اليونان وضد تركيا، وكل منهما عضو، معها، في الحلف نفسه. والسؤال هنا، على وقع هذا الارتباك، هل هي نهاية الوجود الفرنسي في غرب المتوسط ومنطقة الساحل، وخصوصا أن ذلك يتزامن مع أزمة اقتصادية غير مسبوقة، من جرّاء جائحة كورونا؟ لا يمكن الجزم بمستقبل فرنسا في أيٍّ من الفضاءين الاستراتيجيين لها. لكن يمكن توقع تراجعاتٍ وصفتها وسائل إعلام فرنسية بأنها سترسم آفاق نجاة ماكرون من وضع كارثي مستقبلي .. فهل هو السيناريو المتوقع؟