لعله يبتسم أكثر!

لعله يبتسم أكثر!

19 نوفمبر 2019
+ الخط -
قرأت واستمعت لتفاصيل قصة سفاح أميركي قتل ما يقارب 100 امرأة. ووجدتني أصيح غير مصدقة: يا للإنسان! يا لهذا المخلوق المعقد العجيب!

أصبح الإعلام الأميركي، وبضغط هائل من المجتمع المدني والقوانين الحديثة، أكثر حرصاً في عرض قصص السفاحين وعتاة الإجرام وتداول تاريخهم وإظهارهم للعامة في حوارات صحافية وتلفزيونية. والسبب أن السيكوباتيين، بالطبيعة، يحظون بدرجات فائقة من الذكاء والجلد والدأب في تحقيق الأهداف تجعلهم يظهرون للضعفاء والمهمشين كالأبطال الخارقين. أضف إلى ذلك قدرة جهنمية على التخفي بأقنعة مغايرة لحقيقتهم، وتصدير مبررات متماسكة لسلوكهم تكون دائماً كفيلة بتغليب التعاطف الإنساني معهم على النفور المستحق من جرائمهم الشنيعة.

ومن أمثلة ذلك سفاح الثمانينيات الأشهر، تيد باندي، الذي كان محامياً ومتحدثاً سياسياً شهيراً، ثم اكتشفوا قيامه بقتل ثلاثين سيدة بدم بارد. وكانت المفاجأة الأدهى استمرار تعاطف الكثير من الناس معه بعد الحكم عليه وكأنه بطل مظلوم أو سيئ الحظ!

لكنني أظن أن مهمة الإعلام الأميركي كانت أسهل في هذه القضية التي لفتتني مؤخراً. فالمجرم هنا بخلفية اجتماعية تؤهله للإجرام بجدارة، وتتدنى لتسلبه أي تعاطف شعبي ممكن. لكنها للحق تبقى قاصرة عن تزويده بالمدد اللازم لما اقترفه من إزهاق مريع للأرواح، في درجة من العنف والتبلد التي تبقى مستعصية على الفهم مهما قرأ المرء عن تفاصيلها.


سامويل ليتل، أميركي أسود يناهز الثمانين. مسجون منذ سنوات بأحكام مؤبّدة لأربع جرائم قتل ارتكبها منذ ما يقارب العشرين عاماً. رجل ترعرع في الحضيض بلا أب، وبأم تعمل في البغاء، ودارت به الدنيا في دروب التيه والضياع فلم يتوان عن خوضها كلها. شب وشاخ متنقلاً من الضرب، للسرقة، للنصب، لمحاولات الاغتصاب، للسطو المسلح، وصولاً إلى القتل. وقادت المصادفة وحدها إلى سجنه بعدما دلّ عليه تحليل الحمض النووي لإحدى الجثث المجهولة.

قصة تبدو إلى الآن عادية، فمقدماتها ونتائجها متسقة. وكم من مجرمين مثله في كل مكان. لكنها تحولت لتصبح حديث الساعة منذ أيام بعدما تشككت إحدى المحققات في أن للسجين العجوز علاقة ببعض حوادث القتل القديمة التي لم يستدل على فاعلها. وكانت المشكلة أن الرجل ينكر على طول الخط، ويرفض التعاون مع السلطات، ولا يوجد دليل مادي يربطه بالجرائم التي أثارت انتباه الشرطية اليقظة. ففكرت في التعاون مع صحافي متميز اشتهر بقدرته على محاورة السيكوباتيين من عتاة المجرمين، وجرهم للاعتراف بما فعلوه. وبالفعل جلس الصحافي مع المجرم العجوز لجلسات طويلة، واستطاع فتح الصندوق الأسود للرجل، لتكتشف أميركا أنها حصلت للتو على سفاحها الأكبر بلا منازع. السفاح الذي تفوق في عدد ضحاياه على أعتى سفاحيها المعاصرين، تيد باندي، الذي أعدم في الثمانينيات بعد قتله حوالي ثلاثين ضحية. فقد أدلى ليتل العجوز باعترافات تفصيلية طوعية عن قتله لثلاث وتسعين ضحية غالبيتهم الكاسحة من السيدات خلال الخمسين عاماً الماضية.

يا الله! ثلاث وتسعون جريمة قتل بدم بارد دون أن يشتبه فيه أحد أو يعتقل ولو لمرة واحدة!

"كنت أخلصهن من معاناتهن"، هكذا يبرر الرجل لجرائم قتل الصدفة التي كان يرتكبها بلا أي ندم. فكل هؤلاء النسوة كن مشردات أو مدمنات أو داعرات. وكان يلتقطهن من الطرق أو الحانات ويرافقهن لفترة قبل أن يتخلص منهن في ضواحٍ نائية.

ولا ضير هنا من أن نفكر في أن لطفولته التعيسة وتاريخ والدته الشائن يداً في اختياره قتل هذه الفئة تحديداً من النساء المنتهكات. إذ ربما كان يرى في كل منهن وجهاً من أوجه معاناة أمه وضعفها وانتهاكها مما كان عاجزاً عن وقفه في طفولته، فاستعاض عن "إراحة" أمه بإراحة العشرات مثلها لاحقاً. أو ربما كان يختار الضحايا الأسهل ممن لن يسأل أحد عن غيابهن. ببساطة لأن البيوت المحطمة لا تتوقف عن إنتاج المزيد منهن كل يوم بكل أسف.

ومن المثير للضحك والدهشة معاً أن يستشيط السفاح غضباً من أي تلميح بأنه كان يغتصب ضحاياه، فهو "لا يغتصب النساء أبداً". هو يعاشرهن بالتراضي ثم يقتلهن ويلقي بهن في الحفر والمصارف فقط! فيا لمبادئه السامية وخطوطه الحمراء!

يحكي الرجل لمحاوره بالتفصيل عن كل جريمة وكأنه يشاهدها على شريط فيديو أمامه. فالمجرم الثمانيني يمتلك ذاكرة فوتوغرافية استثنائية تمكنه من وصف الفتاة التي قتلها، بل ورسمها بكل دقة، بالإضافة لوصف مكان الجريمة ووقتها وملابسات حدوثها، حتى إن ابن إحدى الضحايا، والذي قتلت والدته وهو طفل صغير ولم يرها، استطاع التعرف إليها من صورة لها يحتفظ بها، وكانت تطابق لحد الذهول مع الوجه الذي رسمه لها القاتل العجوز. كما استطاعت السلطات المحلية في ولايات عدة أن تعثر على رفات القتيلات في الأماكن التي وصفها الرجل بكل دقة بعد عشرات السنين.

تسمع وتشاهد لتجد إنساناً يحكي كيف قتل عشرات البشر بكل ثبات وأريحية وتصالح مع النفس. قتل كل هؤلاء وكان يأكل ويشرب ويلهو ويمارس حياته لخمسين سنة أو يزيد، بالرغم من ذاكرة تحمل تفاصيل كل هذا الظلم وتلك الوحشية طيلة الوقت. فأي أعصاب وأي جسد وأي نفسية حديدية تلك؟!

وأفكر وأنا أشاهده في أن مثله لا يعرف الشفقة ولا الحب. لم يجربهما ولم يتلقهما من أحد بالتأكيد. فعلاقته بالبشر علاقة مرضية مشوهة لأقصى حد طبعاً. وأتساءل عن علاقته بالله. وأجدني أستبعد أي صلة تربطه به بعد كل ما اقترفه. وأجزم بأن نفساً كتلك هي نفس شيطانية منبتّة الصلة عن الروح بالكلية. ثم أجدني أتعجب من الفكرة، وأسأل نفسي لو كان ممكناً حقاً أن تنبتّ عنا الروح التي تحمل نفحة الصفات الربانية بكل خيريتها ونقائها، فنصبح شياطين خالصة؟

ثم أجد بعض الإجابة يأتيني عندما يسأل المحاور المجرم العجوز عن السبب الذي جعله يسترسل في الحكي، ويخبر عما جنته يداه بعد كل تلك السنين، فينظر إليه بكل سماحة ويبتسم وهو يقول: "حسناً.. قلت في نفسي ربما لو أدى كلامي هذا لإخراج أحدهم من السجن بعدما اتهم وحكم عليه ظلماً بقتل واحدة ممن قتلتهن.. أنا أقول ربما نظر إلي الله ساعتها وابتسم أكثر!".

السفاح رقم واحد يعتقد أن الله ما زال ينظر إليه ويبتسم. ويظن أنه يفعل خيراً سيجعل المولى في عليائه يزيد من ابتسامه ولطفه معه! ما زال الله موجوداً إذن وما زالت الروح هناك! أقولها وأنا أفكر: من يدري.. لعله ينجو بها والله!
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى