لا يحتاج السودان آية الله خلخالي

لا يحتاج السودان آية الله خلخالي

25 يوليو 2020
+ الخط -

(1)

كسبت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ببلدانها التي تكاد أن تبلغ العشرين، توصيفاً واضحاً بعد 2011، العام الذي شهد انتفاضات شعبية في بلدان عربية، فصار تعبير "الربيع العربي" متداولا في المراجع السياسية الدولية، غير أن هذا الإقليم الذي يصل إلى المغرب غربا والسودان جنوبا والعراق شرقا لا يرى إيران جزءا منه. بين هذه البلدان قربى جغرافية، وأكثرها يدين بالإسلام. تلك القواسم المشتركة تجمع ولا تفرّق، أما إيران فلا يراها العرب جزءا من إقليمهم. وذلك جدال قد يطول.

(2)

يرى صاحب هذه السطور ثورة الإيرانيين عام 1979، والتي أسقطت نظام الطاغية رضا بهلوي، هي البداية الأولى للانتفاضات الشعبية العارمة التي انطلقت في شرقي الشرق الأوسط، ثم توالت لتشمل، بعد ثلاثين عاماً، الأنظمة الاستبدادية في مصر وتونس وليبيا والسودان والجزائر. أما كان الأحرى بالثورة الإيرانية أن تحمل توصيف "الربيع الشرق أوسطي" الأول؟

انتفاضة السودانيين في ديسمبر 2018 الأكثر شبهاً بثورة الإيرانيين قبل ثلاثين عاماً.

انتفاضة السودانيين في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2018 هي الأكثر شبهاً بثورة الإيرانيين قبل ثلاثين عاماً. لم يخطر ببال أحد المحللين السياسيين، وقتها، أن يصف الثورة في إيران بأنها موسم ربيع سياسي جديد في المنطقة. ولربّما يجادلنا مُحلل حالم بأن الثورة الفرنسية، قبل أكثر من 230 عاما، هي أول موسم ربيع للشعوب المقهورة في العالم، ولا مراء في ذلك.

(3) 

لعلّي أتراجع قليلاً عن توصيف ما وقع في إيران بأنه "ربيع سياسي"، لكون ذلك الحراك الإيراني اتصف بحراكٍ دموي صارخ، ولازمته تصفيات وإعدامات، فاقت ما وقع في الثورة الفرنسية ومقاصلها الشهيرة. لم يتوقف قاضي الثورة، مثل رجالها القساة، آية الله صادق خلخالي، عن إصدار أحكام الإعدام على آلاف من أتباع نظام الشاه رضا بهلوي، بعد محاكماتٍ وجيزة أكسبته لقب "جزّار الثورة"، إلا بعد أن لحقته علّة في بدنه وعقله أقعدته في سرير المرض أكثر من عشرة أعوام توفي بعدها.

(4)

لو كان نظام عمر البشير في السودان قد ماثل، في أوجهٍ كثيرة، نظام شاه إيران وممارسات زبانيته في جهاز المخابرات والأمن القومي (السافاك) والمؤسسات الأمنية الأخرى، خصوصا في سجن إيفين الشهير، وقسوة رجاله الذين برعوا في تأديب الشعب الإيراني وكسر إرادته، فإن للسودان إرثا قريبا في التعامل مع الأنظمة الاستبدادية والحكام الطغاة، ولكن يبعده تماما عن الأنموذج الإيراني الذي نعرف. مع أن نظامين عسكريين حكما السودان سنوات طويلة، إلا أن انتفاضة السودانيين لإسقاطهما لم تفتح أبواباً للانتقام، إبعاداً مجحفاً أوسجناً قاسياً أوإعداماً إيجازياً لعناصر ذينك النظامين. بعد نحو شهرين من إسقاط نظامه في 1962، صار الفريق إبراهيم عبود مواطناً عادياً، وجاء يتسوّق في المدينة، فتلقّاه بعض المتحمسين، وهللوا له وهتفوا: "لقد أضعناك وضعنا بعدك، يا عـبّود.."، فتأمل رقة شعبٍ تجاه من حسبوه ظالما وأسقطوه.

(5)

ولكن تسامحاً كالذي قابل به السودانيون رئيس بلادهم السابق، الفريق عبود، في أسواق الخرطوم عام 1964، لن يكون مناسباً لمعاملة المستبد الذي أسقط السودانيون نظامه، وأجبروه على التنحّي في إبريل/ نيسان من عام 2019. جيء بالبشـير من سجنه إلى المحكمةِ، لمحاسبته على بعض جرائمه ومفاسده، وبدا كأنه يتصوّر، في أحلام يقظته، أنه سيعود رئيساً، فأعلن بملءِ الفمِ رفضه ارتداء لباس السجناء. والضابط المكلف بمرافقته إلى المحكمة، ومن رهبة الموقف، رفع له التحية العسكرية، مُردّداً: "تفضل يا سيادة الرئيس إلى المحكمة" (!). ما الذي ميّز السودانيين عن بعض الشعوب الأخرى التي أنزلت العقوبات القصوى، ومن دون رحمة، بطغاتها ومعذّبيها في الأرض؟ سافر الشاه رضا بهلوي، ولم تقبل به دولةٌ لاستقبال طائرته، وهو يعاني من السرطان. أعطاه حلفاؤه السابقون ظهورهم. وفي بوخارست، انقضّ الثوار الرومانيون وعسكرهم على رئيس البلاد الطاغية الشيوعي، نيكولاي شاوشيسكو، وأوقفوه في ساحةٍ عامة، وأعدموه رمياً بالرصاص، هو وزوجه. حكم رومانيا نحو 24 عاما، ثم مضى إلى مزبلة التاريخ غير مبكيٍّ عليه، وارتفعت رومانيا من ركام سنواته، ولكنهم في رومانيا لم يسموا ثورتهم "ربيع بوخارست". 

قيمة التسامح عند السودانيين تجعل البشير يتدلّل على سجّانيه ويتمرّد عليهم

(6)

تمنّى سودانيون لو أن بعض قضاتهم في مثل قسوة قاضي الثورة الإيرانية، آية الله صادق خلخالي، أو مثل حزم قضاة رومانيا العسكريين الذين حاكموا شاوشيسكو وزوجه خلال ساعة واحدة وأعدموهما. ولكن ها هي قيمة التسامح عند السودانيين تجعل عمر البشير يتدلّل على سجّانيه ويتمرّد عليهم، ويصرّ على التزييّ بمثل ما كان يرتدي في أيامه رئيساً، من جلابيب وعمائم باذخة، وعصيّ كان يتراقص بها على أيامه حاكماً مستبدا. تظل الأماني محض تمنيات، ولكن غلبة التسامح عند السودانيين لن تُخرج من بينهم قاضيا مثل خلخالي. 

(7)

حين نرى التذبذب في معاقبة المُسيء بين الشدّة واللين، ووضع الأشياء في غير أمكنتها، نستذكر بيت المتنبي: وضع الندَى في موضعِ السيفِ بالعُلا/ مُضرّ كوضعِ السيفِ في موضعِ النّدَى.

ليت السودانيين الذين استبدّ بهم البشير، وطغى ثلاثين عاما حسوما، يتذكّرون آثامه ومفاسده، فهو قطعاً لا يستحق معاملة السودانيين في عام 1964 لرئيسهم الفريق عبود. وفي المقابل، ليس بالضرورة أن يكون قضاته من شاكلة جزّار الثورة الإيرانية، آية الله خلخالي.