كيف سنتذكر ماضينا غداً؟

08 ابريل 2015

ابن خلدون: الظلم "مؤذن بخراب العمران"

+ الخط -
"فقط أريد أن أعيش، حتى أرى كيف تكون النهاية"، هكذا قال بطل قصة "مرثية السلطعون"، للكاتب الفلسطيني الرائع، إميل حبيبي، حين غلبه اليأس. وعبارته الحزينة تلك، بات يعيش معناها، كثيرون ممن يرون حولهم إصراراً جماعياً على السير الحثيث في طريق حكم الفرد الذي جربته بلادنا من قبل، فلم يوردها إلا التهلكة. لذلك، لم يعد أمام هؤلاء اليائسين من إقناع أهلهم وناسهم بخطورة ذلك الطريق، إلا تمني الوصول السريع إلى نهايةٍ ما، نبدأ بعدها من جديد.
وما يغيب عن أذهان هؤلاء أن الأمر لم يعد يتعلق بانتظار نهاية فردية لحاكم مستبد، يحكم شعباً مغلوباً على أمره، بل بواقع مرير شاركت في صنعه أغلبية شعبية، واختارته، وقتلت "واقتتلت" من أجله، فهي لم توصل فقط حاكماً مُشوّشاً إلى مقعد القيادة، بل قررت أن تندفع معه نحو هاويةٍ سحيقةٍ من الكراهية والظلم، تاركة لماكينة صناعة الأكاذيب أن تسيطر على تفكيرها وتصرفاتها. ولذلك، لن تكون أي نهاية قادمة سهلة أبداً، حتى وإن ظن بعضهم ذلك في حمأة سخطهم على ما يجري، وشوقهم العارم لأن يروا نهايته بأي شكل، لأن حلول النهاية، وإن كانت رحيمة بسائر العباد، لن تعفي الجميع من دفع فواتير الظلم والكراهية، ولا من مسؤولية إعادة البلاد إلى الطريق الطبيعي الذي تركته، وتردّت في الهاوية. وللأسف، لن يكون ثمن ذلك هيناً على الكل، حتى وإن كابروا في الاعتراف بذلك الآن.
للأسف، لم يأت على الناس حينٌ من الدهر في كثير من بلاد الدنيا، إلا وشهدوا التفافاً شعبياً في فترة ما حول حاكم مستبد، يجيد تخويف الناس من أخطار محدقةٍ، يختلقها أو يضخمها، ويتقن السيطرة على شعبه بشعارات وطنية أو دينية، أو بمزيج منهما. لكن، لم يحدث أبداً أن أوصل ذلك الناس إلى نهاية سعيدة، ولم يحدث أن أفلتوا، هم وأبناؤهم، وأحفادهم أحياناً، من دفع ثمن القبول بالظلم الذي حذرنا ابن خلدون، قديماً، أنه "مؤذن بخراب العمران". وفي حين قررت بعض الشعوب الراغبة في العمران والتنمية أن تواجه نفسها بحقيقة اشتراكها في الظلم، وقبولها به، وأن تحرص على إحياء ذاكرتها الجمعية، لعدم تكرار أخطائها في الماضي، إلا أن ذلك لم يحدث، أبداً، في شعوبنا العربية التي نجح تحالف أصحاب المصالح الحاكمة لها، والعاكمة لخيراتها، في إقناع الناس دائماً بروايات المؤامرات الدولية والإستهداف الكوني، للتعمية على دور الظلم والفساد، في ما وصلنا إليه من تخلف وجهل، لتدمن شعوبنا الهروب من مواجهة نفسها، وتواصل تضييع الوقت والجهد، بمحاولة بناء المستقبل على باطل، ثم تندهش حين يقودها إلى باطل أوسخ وأضل سبيلا.
في آخر روايات الأديب ميلان كونديرا (حفلة التفاهة)، يتحاور بطلا الرواية حول عناء الحياة بوصفها "صراع الجميع ضد الجميع"، فيقول أحدهما إن الناس في المجتمعات المتمدنة، حتى وإن كانت متمدنة إلى حد ما، يسعون إلى حسم ذلك الصراع، بأن يلقوا على خصومهم عار الشعور بالذنب، لدفعهم إلى الاعتذار والاعتراف بالخطأ، ثم يكتشفون أن من يفعل ذلك يخسر الصراع، لأن اعتذاره يشجع خصمه على الاستمرار في إهانته وفضحه، فيرد صاحبه وهو يحاوره، أن الحل المنشود لن يكون أبداً في اعتذار طرف لآخر، بل في اعتذار الجميع بلا استثناء لبعضهم البعض، لأن الحياة في عالم تتزاحم فيه الاعتذارات، هي أفضل من الحياة في عالم يحكمه العناد والمكابرة. وما لم يقله بطل كونديرا أن حدوث الإدراك الجمعي لتلك الحقيقة، لا يأتي أبداً إلا بعد دفع أثمان باهظة ودامية، يكتشف بعدها جميع أطراف الصراع أنهم عاجزون عن فرض رؤيتهم ما سيحدث، وروايتهم ما حدث، مهما أزهقوا من أرواح، وأنفقوا من أموال، فلا يجدون، إن كانوا عقلاء، بديلاً عن السير في طريق العدالة الانتقالية القائم على "الحقيقة والمصالحة".
ولعل ما يعقد وصولنا إلى نهاية مرضية لمأساتنا المتجددة، هو عدم إدراكنا الجمعي معنى "الحقيقة والمصالحة"، فحتى كثير من الساخطين على أحوالنا، يتخيلون أن حل مشكلاتنا يكمن في القفز مباشرة إلى مرحلة المصالحة، من دون خوض عناء البحث عن الحقيقة، بكل ما تتطلبه من صراحة مع النفس، وفتح للجراح من أجل تطهيرها، بكل ما يرافق ذلك من آلام، وهو ما يهدد بتحويل المصالحة، إن تحققت، إلى نسخة مما حدث في الماضي: مجرد هدنة فاشلة، لم تُبن على رغبة في إدراك الحقيقة واستجلائها، بل بنيت على تصور مكذوب لماضينا، الذي لن نصنع مستقبلاً أفضل، إلا إذا تذكرنا ماضينا بكل أمانة، ومن دون تجميل أو تزوير.
يدينا ويديك طولة العمر والأمل.
دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.