كحبّات الفاصوليا أعدّ كلماتي

كحبّات الفاصوليا أعدّ كلماتي

24 مارس 2019
(بامبوس كوزاليس)
+ الخط -

حمّال أوجه

أرعى كلامي بعناية
حتى يكون حمّال أوجه.
بإيحاءات مبهمة،
وغمزاتٍ ماكرة،
التواءات ومداورات،
حتى يتسنى للحقيقة أن تستتر.
لكن أيّ حقيقة؟
أعدّ كلماتي،
كما أعدّ حبّات الفاصوليا
لكنّ عددها يقلّ دائماً.


■■■


لامبيدوسا

هي المحطة الأولى لاستقبال الأرواح المهاجرة.
"أميرة" من حلب،
تشق طريقها بين مخالب الأمواج المتلاحقة،
الصرخات التي لم يذق أصحابها النوم تتلاشى إلى همس،
بينما أطياف الأجساد الشاحبة تبتعد رويداً رويداً.
يلوح في الأفق شفق متردد بين رغبة البقاء أو الرحيل.
ما بقي من دموعها، أغلقتْ عليه في صندوق فضي،
فغداً يومٌ لا ضوء فيه.

"يا سلطان النوم، تحدّث إلينا طوال الليل
حتى لا ينام أحد ونضيّع طريقنا
فقد أوشكنا على الوصول"


■■■


مهاجر

"خبئوني"! هكذا صاحت الطائرة الورقية.
وسرعان ما وجدت مكاناً،
خلف خزانة الأواني الفضية،
الأواني التي يحتفظون بها بعيون تترقب
حفلَ عُرسِ فتاة لم يحن أوانه أبداً.
كانت تلك الطائرة الورقية قد تسللت من النافذة،
مجهشةً بالبكاء
لم يكن ليخفيه حتى ذلك الوجه الضاحك المرسوم على جسدها.
هبت رياح شديدة
فأحضرت إلى عتبات المنزل طفلاً صغير الحجم،
كانت والدته قد منحته بعض قصبات من الطائرة الورقية،
وحررته عسى أن يجد حظاً أفضل في مكان آخر.
لكنه قد بُلّت أوراقه وانثنت قصباته وانقطع خيطه
توجهنا إلى الخارج:
- "امسكي يديه برفق حتى لا تخيفيه"!
- ماذا تفعلين هنا؟
- "قبليه على شفتيه حتى يتنفس"!
- هل أومض بعينيه أم هكذا بدت لي؟
فجأة هبت رياح شمالية عاصفة،
وارتقت بالطفل عالياً.
فأخذت النسوة يضربن صدورهن نحيباً عليه،
كما لو كان فلذة كبدهن.
الطفل كما لو ارتدى أجنحة ملاك واختفى
"دعوهن يبكين عليه"!
هكذا همست الطائرة الورقية،
كي لا يصعد بلا رثاء إلى سموات مجهولة
في سجل ناصع البياض كُتب: "اليوم يومُ رحيله"

حظه أفضل من حظي، ومن شيخوختي بلا ثمار
فكرت البنت التي يسمونها "العانس"
لمن عساها تبوح بهكذا أفكار.


■■■


ذئب

بعد غروب الشمس،
أصير ذئباً متوحشاً،
حائراً داخل المنزل،
وسجيناً.
بينما تتجوّل في الفناء بنات آوى
ويعينني لمرافقتهن.
أعوي حتّى الإنهاك
ثم أهمس "ليلة سعيدة"
حتى لا يسمعنني
ثم أغطّ في نوم عميق.


■■■


ثلّاجة

عواء ممتد يصدر من الثلّاجة
أفتح الباب فجأة،
فأجد صمتاً مطبقاً.
والأبطال ساكنو الحركة،
معلَّقون بخطافات
بعد أن بذلوا كل ما لديهم من دماء
على الأرض التي رقصوا عليها
لكني لا أجد قطرة دمٍ واحدة.


■■■


بائع مُتجوّل

- بطاطا، كوسا، وعندي زهور الكوسا...
تتطلع في المرآة فوق الحوض
تُرى هل تأخرتْ أم هكذا يبدو لها؟
عقدت شعرها برباط مطاطي أزرق اللون،
انتزعته لتوّها من حزمة جرجير،
التقطت محفظة نقودها
قائلة:
- أنا ذاهبة للتسوق...
- أحضرتُ لكِ كل هذه الخضروات الطازجة، ما تحضرينه سيذبل
- ألا أحضر قليلاً من زهرات الكوسا؟
- لدينا أوراق العنب.
أعرف ذلك - قالت بداخلها - لكني أريد أن أراه.

في المساء سألت الرجل بجانبها
- هل هي مُرَّةٌ قليلاً أوراق العنب هذه، أم هكذا يبدو لي؟


■■■


"أوديب"

كفيف البصر
منذ مولده
كلّما حلّت الشمس ردائها،
كان يأتي ليشعل ناراً عند مفترق الطرق
بنظرة مخفية تعلّق بصدر أمه.
فتّشوا الأرض بحثاً عن قلبٍ مريرٍ كي يبكيه
"هذا فقط ما كنت أريده"، هكذا قال
ثوب جديد يحيكه لي خيّاط الأقدار.


■■■


شهر "تموز"
(مناجاة)

لأول مرة بداية العام الجديد بدونه.
كنت أتمنى لكِ فيه "أياماً سعيدة".
كُنتِ تخبرينني كم تفتقدينه فيها.
قبّلتُ الدمعة التي سالت على الخد،
فاغرورقت عيناكِ وصارت كلماتك مبهمة.
كل مرّة سيأتي فيها العام الجديد
بقدوم شهر "تموز" سوف ترفعين كأس النبيذ وحيدةً،
مثلما رحل هو وحيداً.


■■■


بينيلوبي

أربعون عاماً وأنا أحمل في أحشائي صخرة،
لم يشأ زوجي أن يكون لها أباً.
هجرني، وذات ليلة تزوّج في الظلام.
حتى عامه الأربعين والرياح قد أصبحت ثقيلة.
أطفأ مصابيح الزيت في أعماقي،
وتركني خاوية الوفاض والمعنى،
كعمياء تغزل لسنوات
لكن في كل مرة تعود الخيوط،
عارية عذراء عقيمة
دون حضوره من جديد
وأنا برفقة إبرتي المعقوفة دون خيوط مجدولة،
أنسج ثوب الحداد بينما تذوب مني شموعي.
أقيسه فتوخزني الدبابيس وتسقط،
تموت الوخزات،
وينزوي الجسد،
والأماني كأنها وصيفات عروس،
والوشاح يتدلى بمسمار على الحائط.
فاح صدري بعطر اللافندرهذا المساء
لطالما أحبّه، تُرى يتذكره؟
وضعته له خفية في جيبه
لعله يشمّ عبيري هناك في العالم السفلي.


■■■


دَين

ممسكاً بمكنسة أدفع التراب المتراكم على الأرض،
فبعد قليل سيأتي الدائنون كي يسلبوني منزلي.
أضرب الأرض بقدمي
لعل الغبار يزول عن حذائي
فاستيقظت منتفضةً عصبة من الضامنين
الراحلين من زمان بعيد.
منهم أحفاد مجهولون وأجداد معروفون.
يضربون بدورهم الأرض بأيديهم،
فبعد أن انتهوا من البكاء، نهضوا وصاحوا قائلين:
"علينا نحن أن نسدّد ذلك الدين".
"طيور الحجل" تحلِّق على ارتفاع منخفض صائحة بين قطرات الأمطار،
والغيوم تفتح أحضانها،
بينما تتشاجر فيما بينها ثلاثة بُروق،
تقدمت الصفوف صاعقة واثقة من بنفسها
ومزّقت ما كان من خشب وحديد إلى أربع
وعاد الحجر إلى صورته الأولى
ترابي ومائي المقدّس
وأنت كإبرة في كومة قش وسنبلة يانعة،
رأيتُكَ تنبت من جديد،
ألقيتَ مراسي جديدة تثبِّت بها جذورك
فعوداً حميداً.


* Pambos Kouzalis شاعر من جزيرة قبرص، ولد في مدينة نيقوسيا حيث يعيش اليوم. درس تاريخ الفن وعلم الآثار في جامعة أثينا، ويعمل في التدريس وينشط في الحقل الثقافي. بالإضافة إلى مجموعاته الشعرية، شارك كوزاليس في إنتاجات مسرحية وتلفزيونية من خلال كتابة نصوص غنائية. نعثر في شعره على صوت شخصي، وخصوصية قبرصية تجمعه مع أقرانه الشعراء هناك، رغم انتمائهم إلى تقاليد الشعر اليوناني.

* ترجمة عن اليونانية محمد عبدالعزيز

المساهمون