في فشلِ التحوُّل إلى سُلطة أمرٍ واقع

في فشلِ التحوُّل إلى سُلطة أمرٍ واقع

14 أكتوبر 2014

أحد أحياء حلب المدمرة (21مارس/2013/Getty)

+ الخط -

غيرُ مريحٍ ذلك الطرح الذي يحمّل المعارضة السوريّة السياسية مسؤوليَّة القسم الأعظم من التعفّن السوري الراهن. لا ينبعُ هذا الميل عن رغبةٍ في إضفاء قيمةٍ أخلاقيَّةٍ على أداء هذه المعارضة، بقدر ما ينطلق من واقعية ضعف هذه المعارضة، وعدم قدرتها الفعليَّة على التأثير، إيجاباً أو سلباً، في الميكانيزمات العميقة للصراع السوري، بمعنى أنَّه، حتّى لو كانت هذه المعارضة شرّاً محضاً، فإنّها غير قادرة على ممارسة هذا الشر، لأنَّها معدومة الفعالية الواقعية، وضعيفة الأدوات التنفيذية على الميدان، ومنهمكة بالأنانية الفردية، والترقّي الذاتي والمزاودات السياسيَّة.

ولأنَّ تسلّح الثورة السورية يندرج في إطار الآليَّات الدفاعيَّة الحتميَّة الطبيعيَّة للمجتمعات الأهلية، في مواجهة العنف المهول المطبّق تجاهها، فإنَّ المال السياسي الخارجي في بدايات الاحتجاجات لم يكن العامل الحاسم والمولّد لهذا التسلّح، أي أنّ المجتمعات المحليَّة السورية لم تكن في حالة هدوء و"رواق" وسكينة، وأتى المال السياسي الخارجي، وأقنع الناس بضرورة شراء السلاح! لذا، فإنَّ المسؤوليّة التاريخيّة الأساسيّة للمعارضة السورية السياسية كانت في إدارة هذا التسلّح وتنظيمه، وتخفيف احتمالات تلوَّنه بلون مذهبي معيّن، وعدم الاصطفاف وراء اختلافات المموّلين. وبالتالي، توثيق الارتباط بين المجموعات المسلحة على الأرض والتنظيمات السياسية المعارضة. لا شكّ أن المعارضة السورية السياسية أصبحت بحكم الميّتة حالياً، وقد مضى الوقت لهذا الردح.

ولكن، لماذا فشلت تجربة "الجيش الحر"؟

يستخلصُ متابعُ الحال العسكريّة الراهنة، الآن، في سورية، وجود ثلاث قوى أمر واقع، هي حزب العمّال الكردستاني وأقسامه العسكريّة، تنظيم "دولة الإسلام في العراق والشام" وأشباهه، النظام السوري بكيانه الدولتي البيروقراطي، ومكوّناته العسكريّة وحلفائه الإقليميين. وبعيداً عن العبقريّة المتفشيَّة، بأنَّ "فلان صنيعة فلان"، و"فلان يأخذ أوامره من فلان"، فإنَّ ثمّة تشابهاً عميقاً يجمعُ ما بين القوى العسكريّة ـ سلطات الأمر الواقع الثلاث هذه ـ وهو الالتفات إلى مشكلات الحياة اليوميّة للناس، والاهتمام بشؤون التفاصيل الصغيرة. تدرك القوى العسكريّة الأيديولوجية الثلاث أكذوبة الإيديولوجيا جيداً، وتعرف أنّها ليست سوى أداة للتعبئة والتحشيد والجمع، وبأنَّ لا شيءَ يفكِّكُ هُزال أي مفهوم، مثل تعقيدات الواقع اليومي للناس، ومنه، فهي ماهرة في إيجاد البازار بين المسألتين، المعيشيَّة اليوميّة، والحقوقيّة السياسيَّة، ضامنةً للناس العاديين ديمومة الأولى في مقابل التشويش على نصاعة الثانيّة، في بلد متعفِّن، انهار فيه كلّ شيء على كلّ شيء، القوى العسكريّة الثلاث هي أول من شعرت بتعب الناس من الثورة السوريّة، وبنت شعبيّتها على أنقاض هذا التعب.

أمَّا تعاوُن القوى الثلاث بين بعضها بعضاً، فهو يندرج في إطارِ التنسيق العسكري (وليس الاتفاق السياسي بالضرورة) ورسم حدودِ السيطرة، وتقسيم التراب، والاتّفاق على حركةِ دخول الموارد وخروجها، بما يضمنُ إحكامَ القبضة، وترسيخ النفوذ لكلّ قوة. وهذا التعاون يمثِّلُ صورةً مُصغَّرّة بسيطة، عن التواصل الاستخباراتي بين الدول المُنجزة في أشدِّ لحظاتها خصاماً. إنها السياسة بعينها، السياسة التي عجزنا نحن عن ممارستها.

لم تلتقط القوى العسكريَّة، في بداية العسكرة وتشكيل ما يسمى "الجيش الحر"، هذا الملمَح الفاصِل، وبقيت مُجرَّد ميليشيات مسلَّحةٍ، تقاتل النظام السوري، ولم تتحوَّل إلى سلطات أمر واقع، بمعنى إدارة شؤون اليومي واحترام شجونه، من خبزٍ وكهرباءٍ وماء ومواصلات ووقود وتشكيلِ هيئاتٍ تمنعُ الجرائم والسرقات والاعتداءات والخطف.

القوى العسكريَّة الثلاث عائدة من الأيديولوجيا، في الوقت الذي يبدو أننا ذاهبون إليها.

دارا عبدالله
دارا عبدالله
كاتب سوري يقيم في العاصمة الألمانيّة برلين، من مواليد مدينة القامشلي عام 1990. له كتابان: "الوحدة تدلل ضحاياها" (صادر عام 2013) و"إكثار القليل" (صادر عام 2015). يدرس في كليّة الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة "هومبولدت" في برلين. من أسرة "العربي الجديد" ومحرّر في قسمي المدوّنات والمنوّعات. يمكن التواصل مع الكاتب عبر الحسابات التالية: