في عوامل سقوط حكومة الكفاءات التونسية

في عوامل سقوط حكومة الكفاءات التونسية

15 يناير 2020

الجملي يعرض حكومته أمام البرلمان قبل التصويت وإسقاطها (10/1/2019/الأناضول)

+ الخط -
كان يوم 10 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2020 مختلفا عن بقية الأيام في سجلات الطبقة السياسية التونسية وذاكرة فاعليها وفي المخيال السياسي الجمعي للتونسيين أجمعين، إذ شهد سقوط حكومة الكفاءات التونسية المستقلة التي شكّلها الحبيب الجملي، بتكليف من حركة النهضة، الحزب الأول في الانتخابات التشريعية التي عرفتها تونس يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2019. وهي سابقة أولى في التاريخ السياسي التونسي المعاصر، أن يمتنع البرلمان عن منح الثقة للحكومة، وينهي بذلك تفويض التكليف الذي منحه الدستور للحزب أو الائتلاف الفائز والشرعية التي جاءت بها الانتخابات التشريعية. نالت حكومة الجملي ثقة 72 نائبا ينتمون إلى حركة النهضة وتيار ائتلاف الكرامة، حديث العهد بالحياة السياسية التونسية، بينما عارضها ورفض منحها الثقة 134 نائبا يتوزّعون على كل من الكتلة الديمقراطية، وقلب تونس، والحزب الدستوري الحر، وتحيا تونس، والإصلاح، الوطني والمستقبل، ما يفيد بأن التشكيلة الحكومية حظيت بتأييد الحركة الإسلامية بشقيها في حركة النهضة وائتلاف الكرامة، وعارضتها بقية التيارات السياسية والأيديولوجية من قوميين عرب ويساريين ودستوريين وليبراليين وحقوقيين ونقابيين. 
ولكن المفارقة التي بانت في الجلسة العامة للبرلمان التونسي، وأفصح عنها النقاش العام الذي استمر أكثر من تسع ساعات، في يوم مشهود وعاصف، عرف متابعة دقيقة من مختلف الفئات الاجتماعية والمشارب الفكرية ومراكز الفعل الاقتصادية والمالية ولوبيات النفوذ الداخلية 
والخارجية، وتغطية شاملة من الإذاعات والتلفزيونات المحلية والدولية والصحف الإلكترونية والصفحات الافتراضية الشديدة التأثير والانتشار، تمثلت في إفصاح الأمين العام لحركة النهضة، زياد العذاري، المستقيل حديثا من موقعه القيادي، ومن الخطط القيادية في حركته، عن رفضه إعطاء الثقة لحكومةٍ أشرف على تشكيلها حزبه، وانتقاده بشدة رئيس الحكومة المكلف، ومقاربته في تكوين فريقه الوزاري، وهندسة الحكم المعتمدة، والبيان الحكومي المعروض على المجلس، ذاهبا إلى أبعد من ذلك، عندما أعلن أن الحبيب الجملي ليس الأكفأ لقيادة المرحلة وتولي رئاسة الحكومة التونسية. وهو أمر يمكن تفهمه، بالنظر إلى أن العذاري كان يسوّق نفسه لدى "النهضة" والأطراف الدولية المالية والسياسية الفاعلة أنه الأجدر لتولي المهمة. ومع ذلك، يمثل ما أقدم عليه خرقا خطيرا للانضباط التنظيمي الحديدي الذي ميّز تجربة حركة النهضة (الإسلامية)، منذ انبعاثها حزبا سياسيا قانونيا ومؤشرا له من الدولة التونسية، بعد انهيار نظام بن علي عشية 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2014، واستبداله بالنظام الديمقراطي القائم على مبدأي التعدّد الحزبي والسياسي والتداول السلمي على السلطة. ولا يعتبر موقف العذاري مجرّد تمرد شخصي على سلطة رئيس الحركة، راشد الغنوشي، بأي حال، وإنما هو مثالٌ لما يعتمل داخل "النهضة" من تبايناتٍ في المواقف، واختلافاتٍ في الرؤى، وتياراتٍ خفيةٍ متصارعة، ولعبة مصالح ونفوذ تقودها أرسطقراطيات وواجاهات حزبية وتعبيرات جهوية، نشأت في ظل تجربة الحكم ومزاياها، وترسّبات تاريخية مرجعها كيفية إدارة مرحلة الاستبداد والمتاهة، وتأثيراتها على الحركة الإسلامية التونسية واستتباعاتها اللاحقة في أزمنة تولي السلطة.
ويعد سقوط حكومة الجملي نتاجا للمقاربة السياسية التي اختارتها قيادة "النهضة"، بأن اعتبرت نتيجة الانتخابات كافيةً لتعطيها الأحقية في تشكيل الحكومة، بناء على ما ورد في الفقرة الأولى من الفصل 89 من الدستور التونسي. والحال أن تلك النتيجة وضعت "النهضة" في مأزقٍ سياسيٍّ حقيقي، اعتقد النهضويون أنهم قادرون على الالتفاف عليه وتجاوزه بأقل الأضرار، وبالأسلوب السياسي نفسه وطرق المناورة التي اعتمدوها في تشكيلهم حكومتي الترويكا (2011 – 2014)، وتكوين حكومة التكنوقراط برئاسة مهدي جمعة، ثم حكومات الحبيب الصيد ويوسف الشاهد (2015 – 2019). وقد اتصف أسلوب حركة النهضة في الفترة الأولى بالهيمنة على المشهد الحكومي، وتجميله ببعض الشخصيات الوطنية والتشكيلات الحزبية (حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات)، وأخذ هذا الأسلوب منحى زرع شخصيات نهضوية متخفية في الحكومة التكنوقراطية. وبعد انتخابات 2014، انتهجت النهضة سياسة التمكين الحكومي، والحصول على أكبر قدر من المناصب الحكومية في مختلف هياكل الدولة، من دون أن تظهر أنها صاحبة المسؤولية عما يجري من فشل حكومي، وضعف في الاختيارات والسياسات، وتردٍّ في حياة المواطنين، نتيجة غلاء الأسعار وانهيار الدينار وانتشار الفقر والجريمة المنظمة وغياب الدولة.
استعملت "النهضة" كذلك، عشية التصويت على حكومة الكفاءات المستقلة، أسلوب اختراق 
الأحزاب والكتل البرلمانية من الداخل، وإحداث انشقاقات فيها، وبث الإشاعات والبلبلة والشك بين أفرادها، وتقديم الإغراءات والوعود بالمناصب في الدولة، في مستوى الولايات والإدارات العامة والمؤسسات العمومية والسفارات والقنصليات، وإطلاق التهديدات بالمتابعة القضائية والسجن، كما حدث مع رئيس حزب قلب تونس، وهو الأمر الذي أتى أكله سابقا وجاء برئيس الحركة، راشد الغنوشي، رئيسا للبرلمان. وفي هذه المرّة، أخذ الأسلوب النهضوي في إدارة أزمة تشكيل الحكومة اتجاها عكسيا وارتداديا، خصوصا بعدما امتلك رئيس حزب قلب تونس، نبيل القروي، قدرا من المناورة، فحيّد رئيس الحكومة يوسف الشاهد، الذي خاض معه معركة كسر عظم، ودخل معه ومع حزبه تحيا تونس في صلح، ربما يتحوّل إلى تحالف سياسي بدأت أعراضه وعلاماته تظهر جليةً في الساحة السياسية التونسية، وخصوصا أن كلا الرجلين والحزبين هما سليلا حزبهم الأم، نداء تونس، الذي أسسه الباجي قائد السبسي سنة 2012.
ومن عوامل سقوط حكومة الكفاءات أيضا، وعدم نيلها ثقة البرلمان، التقية التي طبعتها وإخفاء حقيقة مكوناتها الحزبية وانتماءات وزرائها السياسية، والإصرار على تقديمها للرأي العام حكومة تكنوقراط ومستقلين، في حين كان جلهم من نهضويي الصفّين، الثاني والثالث، وبعضهم من اقتراح ائتلاف الكرامة، وآخرون من حزب قلب تونس، على غرار وزير التنمية والاستثمار الدولي، وكاتبة الدولة للصحة، اللذين رفضا الانسحاب بعدما قرر حزبهما عدم المشاركة في الحكومة وعدم منحها الثقة. هذه الآلية في تشكيل الحكومة، وسياسة التخفي والتقية التي اعتبرتها الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية المناهضة للحكومة تذاكيا ومخاتلة من حركة النهضة وقيادتها، 
ظهرت من جديد في أقل من 12 ساعة على سقوط الحكومة. وبدلا من تقييم الحالة السياسية النادرة التي عرفها البرلمان التونسي، منح الثقة من التيارين الإسلاميين فقط (حركة النهضة وائتلاف الكرامة)، والاعتراف بأن عدد نوابهما لا يمكّن "النهضة" من تشكيل الحكومة، وأن بقية التيارات والأحزاب والكتل جمعها التصويت ضد منح الثقة، ما يعني وضع الحركة في زاوية سياسية ضيقة ومحدودة الأفق السياسي. بدلا من ذلك، سارع الغنوشي إلى لقاء رئيس الجمهورية التونسية، قيس سعيد، صباح اليوم التالي، وقدم له اسم الحبيب كشو مقترحا من حركة النهضة لتولي رئاسة الحكومة وفق الفقرة ب من الفصل 89 من الدستور التونسي، أو ما باتت تعرف بحكومة الرئيس، كشخصية أجدر، حسب الاصطلاح الدستوري. ويعلم الغنوشي بأن الكشو الذي عمل مستشارا اجتماعيا لدى رؤساء حكومات حمادي الجبالي وعلي العريض ومهدي جمعة (2011 – 2014)، هو ممن رشحهم مجلس شورى النهضة مع الحبيب الجملي، ولكنه لم ينل ثقة المجلس، وسبب إعادته إلى السباق الحكومي إمكانية أن يقبله الاتحاد العام التونسي للشغل الذي سيكون له دور فعّال في انبعاث حكومة الرئيس.
وكان على رئيس حركة النهضة، قبل الذهاب إلى رئيس الجمهورية، أن يسارع إلى مشاورات جادّة مع الأحزاب والكتل البرلمانية الفاعلة، للاتفاق على شخصية وطنية جامعة، تتمتع بكاريزما عالية، تستطيع أن تقوم بوظيفة تشكيل حكومة تتوفر فيها شروط الوطنية والكفاءة ونظافة اليد والإرادة السياسية والقدرة على الفعل، بإمكانها إنقاذ البلاد التي تغرق في أزمة اقتصادية ومالية واجتماعية هيكلية، حكومة تتمثل فيها مختلف الحساسيات السياسية والفكرية التي حظيت بثقة الناخبين، بشكل متوازن، بدون إبعاد أي طرف، مهما كان لونه الأيديولوجي والسياسي وتجربته التاريخية، إلا من أقصى نفسه ورفض المشاركة، عسى أن تحظى بحزام سياسي وبرلماني يمكّنها من نيل الثقة والعمل بأريحية وفي ظروف مشجّعة وملائمة.