فن تزوير الحقيقة في سورية

فن تزوير الحقيقة في سورية

07 مايو 2018
+ الخط -
لم تعد تخفى على أحد الأفلام المُفبركة التي تستعملها فضائيات عديدة، لأغراض تخدم سياسة الدول التي تمول وتستفيد من اللقطات المفبركة. ويبدع التلفزيون السوري في فبركة هذه الأفلام، وخصوصا حين يعد برامج عن لقاءات  مع أهالي الشهداء الأبطال، الأهالي محترقي القلوب من الألم على أبنائهم الذين قُصف عمرهم، وماتوا في حرب قذرة عبثية، واستحقوا وسام الشهيد البطل. سبحان الله، كل الأهالي يردون على أسئلة الإعلامي بأنهم في قمة السعادة، ويشعرون بالفخر والاعتزاز بأن ابنهم (أو عدة أبناء لهم) ماتوا في سبيل الوطن! لكن عدسة الكاميرا تفضح ذهول الألم في وجوههم والكلام الذاهل المعتوه الذي يقولونه، وكأنه هابط عليهم من سماء القصف والصواريخ الذكية ويحرّك حبالهم الصوتية. ثمة شرخ فظيع بين كلامهم وانتشائهم بموت أولادهم وبين وجوههم المأساوية الملامح والذاهلة من الألم.
مشاهد أهالي دوما ينزحون بالمئات في حافلاتٍ أنيقة، وتعليق المراسل الصحافي السوري إن عائلات الإرهابيين تغادر دوما.. الله أعلم إلى أين. لم نجد على الشاشة سوى سرب من النساء السوريات، وسرب من الأطفال الهائمين على وجوههم يحملون أكياساً سوداء (كأكياس القمامة)، ويصعدون إلى الحافلات، وهم يشكرون النظام، ويشعرون بسعادة شديدة كونهم تحرّروا من الإرهابيين!! أي سعادةٍ يشعر بها إنسان تقصفه الصواريخ الروسية الذكية طوال الوقت، والمُجبر على ترك بيته، ولعل صورة الرجل الذي يضع نجله في حقيبة سفر أكبر فضح لمهرجان السعادة والانتصارات التي تعم سورية دوماً. وقد كان مشهد حي الحجر الأسود، وقد سُوي بالأرض، مرفقا العنوان بالأحمر العريض الذي يبثه التلفزيون: دمشق تنتصر.
كل شيء في سورية انتصارات، وخصوصا الموت، لكن الخطر الأكبر من كل تلك الأفلام والصور التي يفبركها التلفزيون السوري على مدى سبع سنوات هو الأفكار المُروعة
 والخطيرة، والتي (لعظيم الأسف) تصدر عن مثقفين ومتعلمين وحاصلين على شهاداتٍ عالية. وقد عرض "تلفزيون سوريا"، في برنامج "يا حرية"، أخيراً، مقابلة مع الروائي السوري مصطفى خليفة، صاحب الرواية الشهيرة "القوقعة"، وهو الذي سُجن 14 عاماً. أرسل الرابط الإلكتروني للحلقة إلى أصدقاء. ثم تلقيت جواباً من أحدهم، يعمل في دولة عربية خليجية طبيباً مرموقاً، ولديه شابان أنهيا دراستهما الجامعية، هرّبهما إلى أوروبا، كي لا يُطلبا إلى خدمة الجندية، ويعودا إليه جثتين حاملتين وسام "الشهيد البطل". وهو الذي ترك سورية في الأسبوع الأول للثورة، خوفاً من أن تخطفه عصابة الخطف والإجرام التي يترأسها أحد أهم شبيحة النظام، ومن عظام رقبة النظام. هجّ، خوفاً من خطفه أو خطف أحد أولاده، وهو الطبيب الثري وابن عائلة مرموقة. ومما كتبه إلي الصديق: في عام 1799، وبينما كانت باريس تعج بالمحتجين والفوضى، كان نابليون بونابارت قائد حاميتها ومُكلفاً بإعادة الاستقرار إليها، فنصب المدافع في شوارع المدينة وأطلق النار على الثوار الهائجين الذين راعهم مشهد القتلى بالألوف، فتوقفوا عن إكمال مسيرتهم، وعادوا إلى بيوتهم، وبعدها احتقر الشعب الفرنسي هذا القائد مائة عام (!)، ثم عادوا وكرموه كأفضل قائد عسكري وأفضل حاكم وأعظم إمبراطور، ولا أحد يتحدث عن فرنسا إلا ويذكر هذا القائد الملهم، والذي صار رمزاً لتاريخ فرنسا. القسوة مفيدة أحياناً يا عزيزتي.
ماذا يمكن أن يكون رد الضمير والمنطق على أفكارٍ كهذه تخون الحقيقة، وتهزأ بوطن ممزق ومدمر وجريح، وحضرة الطبيب يبرّر القتل، ومعجب بسياسة النظام السوري في ترحيل أهل دوما، وفي تشريد ثلث الشعب السوري، وفي موت مئات الألوف من الشباب في الجيش السوري، وموت الآلاف تحت التعذيب في المعتقلات. حضرة الطبيب الوطني المُنافق يوهم نفسه، ويعتقد أنه يستطيع أن يوهمنا بمنطقه السافل الخائن، ولا أعرف أين تكمن وطنيته وحبه سورية.. لماذا لم يبق فيها يداوي المعوقين الذين انفقأت عيونهم، أو بُترت أيديهم وأرجلهم؟ لماذا لم يقدم، ولديه الشابان، ليلتحقا بالجيش السوري، ويعودا إليه جثتين مع وسام الشهادة، ثم يظهر هو وزوجته (لا تلبس إلا أشهر الماركات العالمية) على شاشة الفضائية السورية،
 ويزغردان بفخر كون ولديهما استشهدا. اكتفى، وهو الذي لم يخسر زراً من قميصه، بأن يستشهد بماكيافيللي ونابليون لتبرير القتل، ولو أبيد شعب بأكمله، ولا يخجل ولا يرفّ له جفن، حين يستعمل عبارة "الثوار الهائجين الذين راعتهم وحشية القتل، فعادوا إلى بيوتهم".
ألا تتساءل، أيها الطبيب، يا من أقسمت قسم أبقراط: لماذا كان هؤلاء الثوار هائجين، وأي ظلم مروع كانوا يشهدونه حتى هاجوا؟ وأخيراً، تبشرنا بأن التاريخ بعد مئة عام سوف لا يذكر إلا مرتكب المجازر كبطل قومي.. يا للعار. حاول مراراً إقناعي بأن لا حل في سورية إلا الرمد أو العمى. والرمد برأيه النظام والعمى "داعش". كما لو أن الشعب السوري لا يستحق أن يكون صحيح العينين وصحيح الرؤية. وأعرف، أنا طبيبة العيون، أنه لا فرق كبيرا بين الرمد والعمى، وأن المهم في الواقع البصيرة، فوظيفة العين ليست كوظيفة الكاميرا، أي مجرد التقاط صور، بل وظيفة العين الرؤية والبصيرة، وتفسير ما تراه بصدق وشرف وضمير.
ألف خسارة وخيبة أن تجد من يدعون الوطنية وحب سورية هربوا منها، وهرّبوا أولادهم، واكتفوا أن يكون دورهم التصفيق والتهليل لموت أبناء الآخرين وشبابهم. يا للعار والخزي. فعلاً فبركة أفكار كهذه أخطر بملايين المرات من فبركة فيلم أو لقطة تلفزيونية. وأخيراً ستبقى روايات السجون السورية، وفي مقدمتها "القوقعة" أكبر شهادة حق في وجه تزوير الحقائق وخيانة الضمير.
831AB4A8-7164-4B0F-9374-6D4D6D79B9EE
هيفاء بيطار

كاتبة وأديبة سورية