عن قانون تونسي أسقطه الفيسبوكيون

عن قانون تونسي أسقطه الفيسبوكيون

11 ابريل 2020
+ الخط -
ظاهرة لفتت أنظار الدارسين والباحثين وصناع القرار والمتابعين، حدثت ليلة 30 الشهر الماضي (مارس/ آذار) في تونس، بادر إليها المجتمع الفيسبوكي التونسي، الذي يعدّ ما يزيد عن سبعة ملايين بروفايل، حقيقية ووهمية، ومئات آلاف المجموعات المغلقة والمفتوحة والصفحات السياسية والحزبية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والفنية والدينية والاستعلامية، تعبّر عن آراء ومواقف وحميميات وأمزجة وانفعالات وردود أفعال 11 مليون تونسي. والظاهرة هي تداعي هذا المجتمع العريض إلى تنظيم حملة واسعة مكثّفة، ذات طابع جماعي، أخذت منحىً تصاعدياً، وعبرت كل المنصات الاجتماعية، هدفها الثورة في وجه مبادرة تشريعية، استهدف مسوّقوها وضع قانون "أخلقة الحياة السياسية والاجتماعية"، الذي أودع في مجلس نواب الشعب، وحمل مرجع 29/2020، رامياً إلى "التصدّي إلى الجريمة الإلكترونية المتعلقة بهتك الأعراض والمساس من شرف الأفراد والجماعات بدون وجه حق بغاية الحدّ من انتشار الإشاعات التي تمسّ من اعتبار الأشخاص ورمزيتهم الاجتماعية والسياسية"، حسب البند الأول من نص مشروع القانون. وقد أمضى وثيقة شرح أسباب المبادرة التشريعية هذه النائب عن حزب تحيا تونس، المبروك كرشيد، ووقّعها 47 نائباً، من مختلف الأطياف والكتل البرلمانية في الحكم والمعارضة، بما في ذلك قادة ورموز من الصف الأول للأحزاب السياسية، وهي تعرّف الجريمة الإلكترونية بأنها نشر الأخبار الزائفة التي شهدت رواجا في الفترة الانتقالية، ومن شأنها أن تهدد الديمقراطية كما كانت هدّدت نظيراتها في فرنسا وألمانيا، ما اضطرّ البلدين إلى سن قانون رادع لحماية الديمقراطية من العبث. ويرتكز مشروع القانون على تنقيح فصلي المجلّة الجزائية التونسية عدد 245 و247، ويقترح في ضوء ذلك الفصل 25 جديد الذي اعتبر "قذفا علنيا كل إفشاء لخطاب كاذب أو مشكوك في صحتّه بين مستعملي الوسائل الإلكترونية ومرتادي منصات التواصل الاجتماعي، من شأنه أن يسيء إلى الأفراد والجماعات أو المؤسسات بكل طريقة، سواء كان ذلك بالأفعال أو النشر أو التوزيع أو الإرشاد إليها بصفة أصلية أو عرضية"، والفصل 247 جديد الذي "يعاقب مرتكب القذف الإلكتروني بالسجن مدّة عامين، وبخطية مالية تتراوح بين عشرة آلاف دينار وعشرين ألف دينار، ويرفع العقاب إلى الضعف، إذا كان القذف واقعا في أثناء عملية انتخابية أو في الستة أشهر السابقة لوقوع الانتخابات".
أثار المشروع خشية حقيقية على حرية التعبير التي اعتبرها "شعب الفيسبوك" بمختلف طبقاته 
ومراكز قواه، المكسب الوحيد الذي جاءت به الثورة التونسية، فإذا بنوابٍ يريدون السطو عليه والارتداد بالحياة السياسية والفكرية والاتصالية إلى ما قبل سنة 2010 تاريخ انطلاق الثورة على نظام بن علي وإسقاطه. الأمر الذي عُدّ اختراقا للدستور التونسي لسنة 2014 في بابه الثاني حول الحقوق والحرّيات، وخصوصا في الفصل عدد 31 الذي ينص على أن "حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة، لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحرّيات"، فالخيط الرفيع الذي يمكن عبره إدراك الفروق الواضحة والجلية بين تلك الحريات والمواقف التي قد يصدع بها أي فرد من المجتمع، وما قد تنطوي عليه من ترويج إشاعاتٍ أو أكاذيب، صعب الإدراك والتحديد، ولم يعرّفها القانون المقترح تعريفا واضحا، وهو يدخل في إطار المسائل التقديرية، ذات الطابع الإشكالي الذي لا يلقى إجماعا بين الجمهور. أما ما سمّاه النص "هتك الأعراض والمساس من شرف الأفراد والجماعات"، فقد تناوله الفصل عدد 128 من المجلّة الجزائية الذي نصّ على أنه "يعاقب بالسجن مدة عامين، وبخطية قدّرها مائة وعشرون دينارا كل من ينسب لموظف عمومي أو شبهه بخطب لدى العموم أو عن طريق الصحافة أو غير ذلك من وسائل الإشهار أمورا غير قانونية متعلقة بوظيفته دون أن يدلي بما يثبت صحة ذلك"، وفصّل القول فيه الفصل عدد 86 من مجلّة الاتصالات الذي نصّ على أن "يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين سنة واحدة وسنتين وبخطية من مائة إلى ألف دينار كل من يتعمد الإساءة إلى الغير أو إزعاج راحتهم عبر الشبكات العمومية للاتصالات".
لقي القانون الجديد معارضة راديكالية من الاتحاد العام التونسي للشغل الذي رفض، في بيانه الصادر في 30 مارس/ آذار 2019، تعديل الفصلين 245 و247 من المجلة الجزائية، معتبرا أن المشروع في صيغته المقترحة يتنافى مع الدستور ويمثل ضربا للحريات. والموقف نفسه عبرت عنه الهيئة الوطنية للمحامين في بيانها الصادر يوم 29 مارس/ آذار المنقضي، مستعملة لغة حادة وحاسمة في رفضه، بعد أن وصفته بالخطورة وبالقانون ذي الطبيعة الزجرية، ويمثّل محاولة غير مقبولة لضرب الحرّيات العامة والرجوع بالبلاد إلى مربع مصادرة حرية التعبير. وتبنت رفض القانون أيضا 37 منظمة وطنية وجمعية مدنية، منها النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين والاتحاد العام لطلبة تونس والاتحاد الوطني للمرأة التونسية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، ممن ينسبون أنفسهم إلى الطيف المدني اليساري والليبرالي، معتبرين في بيانهم الصادر يوم 30 مارس/ آذار أن مشروع القانون يتضمن أحكاما متعارضة بصورة صارخة مع الفصول 31 و32 و49 من الدستور التونسي، ومع المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه تونس، ومستنكرين طلب استعجال النظر فيه، خصوصا أنه يتضمّن عقوبات غير متناسبة مع الأفعال المجرّمة، وأن نشر الأخبار الزائفة مجرّم بمقتضى الفصل 54 من المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر.
لقد انتهت رحلة القانون إلى سقوطه السريع، قبل أن يجد له طريقا إلى مكتب مجلس نواب 
الشعب، لإحالته إلى لجنة برلمانية مختصة تتولى دراسته، وترسل به بدورها إلى الجلسة العامة، وذلك بعد أن تتالت عمليات سحب إمضاءات النواب من كتل أحزاب النهضة وقلب تونس وتحيا تونس والإصلاح والكتلة الديمقراطية وائتلاف الكرامة، وبعض المستقلين على غرار مرشح الرئاسة السابق، الصافي سعيد، الذي برّر إمضاءه بأنه أُخذ على حين غرّة، قبل أن ينتهي الأمر إلى سحب مؤقت للمشروع من صاحب المبادرة النائب كرشيد، على الرغم من دعم إدارة فيسبوك مبادرته، الذي برّر موقفه بالاستجابة للهيئة الوطنية للمحامين التي ينتمي إليها، والتي رفضت قطعيا ما احتواه القانون من تنقيحات للمجلة الجزائية. ويبدو أن توقيت تقديم مشروع القانون لم يكن ملائما، إذ تزامن مع ظهور وباء فيروس كورونا وانتشاره في تونس، ما جعله يطغى على كل النقاشات الرسمية والشعبية، ويأخذ مكان كل القضايا الأخرى التي صنّفت بأنها مسائل ثانوية أمام الموت الجارف الذي يتهدّد الجميع، ويعطّل الديناميكية الطبيعية للمجتمع والدولة، حتى إن الجمهور الواسع الناشط فيسبوكيا اعتبره قانونا مؤامرة، أراد أصحابه تمريره في غفلة من الناس، وهم يقاومون فيروس كورونا. ولم تفلح النيات الحسنة والرغبة في أخلقة الحياة السياسية التونسية وتطهيرها من الشوائب وحماية الديمقراطية الناشئة الغضة والطرية، صادقة كانت أو مفتعلة، في إقناع جماهير فيسبوك الثائرة، حتى على قياداتها الحزبية البرلمانية، ممن أمضوا على المبادرة القانونية، واعتقدوا أنها يمكن أن تمثل رادعا للحملات الفيسبوكية الزرقاء، وذات الألوان المختلفة، خصوصا حين تنخرط في الشيطنة والتشويه والسب والكذب، كما حصل لصاحب المبادرة نفسه، ومن آزره بالإمضاءات.
لم تعد منصة فيسبوك في تونس اليوم مجرّد فضاء للتعبير، يمتلك فيه الفرد منبرا وجريدة خاصة به، ينشر على أعمدتها نصوصه وتدويناته وصوره وفيديوهاته الحية في المكان والزمان، ويمارس من خلالها دور المواطن – المدوّن، وحتى المواطن - الصحافي، وإنما صارت تمثل حركة اجتماعية جارفة، قادرة على صناعة الرأي العام ومراقبة الحكومات والبرلمانات وإسقاط الوزراء والتشريعات.