عن ثقافة الموت في تونس

عن ثقافة الموت في تونس

18 ابريل 2015

تونسيون يتظاهرون ضد الإرهاب والعنف (29 مارس/2015/الأناضول)

+ الخط -

أصبحت تونس بعد الثورة، مع انفلات الساحة الدينية، وغياب أطر الرقابة المحلّية، نقطة التقاء جماعاتٍ عديدة رفضت أن تتخذ شكلاً حزبياً، يخضع لمحددات النظام المدني الذي نصّ عليه الدستور التونسي، وتعددت الدراسات لفهم هذه الظاهرة، وتفكيك أبعادها، وتحديد أولوياتها، وتفسير السحر الذي تمارسه لاستقطاب عدد مهم من الشباب التونسي. ويظلّ الشاب التونسي في علاقته بالإرهاب الموضوع الأكثر تشابكاً، فهو يتقاطع، بشكل مباشر، مع المؤسسات الحيوية للدولة، حيث استهدفت هذه الجماعات، بعد إصدار بيانات عديدة متحف باردو الذي يقع في العاصمة التونسية، تحديداً في محيط مبنى مجلس نواب الشعب، وهي أكثر منطقة، يُفترض أن تكون مؤمنّة أمنياً وعسكرياً، لأن التنظيمات الإرهابية، بإجماع تونسي، تستهدف التجربة الديمقراطية الرائدة في العالم العربي، وتعمل على تبديد أنظمتها، فكان من المفترض أن تكون كل مؤسسات الدولة، خصوصاً الحيوية، محاطة بحزام أمني مشدد. لكن، هذه المرة أظهرت الجماعة الإرهابية منفذة الجريمة أنها تستطيع فعل ما لا يمكن توقعه، وكشفت عن استراتيجية جديدة في تنفيذ الهجمات داخل المدن، بعد أن كانت ترتكز في الجبال، وتقوم بهجمات مباغتة للدوريات الأمنية والعسكرية.

وهنا، أصبحنا نتكلم عن معركة حقيقية بين إدارة التوحش وإدارة الحياة، وأصبح سيل التصريحات التي تهدد الحرّيات الدينية في البلاد يسبب خوفاً على فقدان أهم مكاسب الثورة التونسية، بعد سياسة تجفيف المنابع التي فرضتها سياسات قمعية تعاقبت على تونس ما قبل الثورة، وهو ما يؤجج وتيرة الاحتقان، ويفقد الثقة بين بعض الشباب وأجهزة الدولة، فلا يجد هذا الشاب ملجأ لحماية مقدساته سوى هذه الجماعات.

شباب يؤمن بحور العين والغلمان المخلدين، وأنّ الحياة ليست إلّا متاعاً للغرور، شباب في عمر الزهور يعدون العدة لموتهم، ولا يعملون من أجل حياتهم التي حدّدت بغياب أبسط متطلباتهم، ناهيك عن حياة الآخرين، حيث أنهم يحددون مصير المتقاطعين معهم كلياً في الحياة وفي التفكير وفي المعيشة والسلوك، وخصوصاً من يعاديهم من الأنظمة، فأغلب المنتمين إلى التيارات المتطرفة ينتمون إلى المناطق المهمشة، ممن لا تكتب أسماؤهم في قائمات الناجحين في المناظرات العمومية من أصحاب الشهادات العليا الذين حرموا فرصة العيش بكرامةٍ، من شباب سئم الوعود الواهية، وملّ انتظار مشاريع تخضع لولادة عسيرة، تمنعها رؤية النور، من عدم إدماجهم في صناعة القرار وإقصائهم بصفة ممنهجة عن الحياة العملية.

وإثبات الحجة على الجاهل سهل، لكن إقراره بها صعب، فأغلب الشباب التونسي ينتهج الوسطية والاعتدال في التفكير، ويعتبر أنّ معظم هذه التصّرفات لا تمت للإسلام بصلة، وإنما تنم عن فهم خاطئ، وقراءة سطحية للنصّ الديني. ومع ذلك، تحتلّ تونس مرتبة مهمة من حيث تصدير الجهاديين، الأمر الذي يفسره بعضهم بأنه نتاج طبيعي، في ظلّ فراغ اجتماعي وسياسي يرتكز على المركزية وإقصاء الآخر.

ولعلّ أولّ ما يتبادر لذهن أي شخص حول مسألة الإرهاب هو الرفض القطعي لهذه الظاهرة، على الرغم من وجودها الحتمي وتكاثرها اليومي، حيث أصبحت بنية ثقافية وفكرية جلّية وملموسة، وقد اعتبر بعضهم أنّ هذه التيارات الإرهابية كمن ينتظر فرصته، ليعبّر عن نفسه في أنماط وسلوك مختلفة، سعياً إلى واقع أجمل، وإلى جنّة الخلد الموعودة، وهروباً من واقع بائس، باعتبار أنّ ثقافة الموت تشبع رغباتهم، وتلبي حاجياتهم، حتى الملموسة منها، فهناك جدلية بين ثقافة النهوض والإبداع والتنوير، والعلم الحق، وبين عشق الحياة ما بعد الموت.. فعندما تسود ثقافة التنوير، تسود ثقافة التسامح واحترام ثقافة ورأي الآخر، ويزيد الاعتزاز بالوطن، وينخرط الجميع في بنائه. ويصبح حب الوطن جزءاً من عشق الحياة، وتتراجع ثقافة الموت. وفي المقابل، ينحط، في انتشار نمط ثقافة الموت، الفكرـ ويحتقر العلم والعمل، ويتراجع الدور الوطني الحضاري.

وقد اختارت الأنظمة الحاكمة والنخب السياسية والطبقة المثقفة في بلدان الربيع العربي أن تروّج استنساخ تجارب وتطبيقات سياسية سابقة، كانت وما تزال أبرز سمات البلدان المتقدمة اجتماعياً وسياسياً وثقافياً ودينياً، من دون أن تستوعب الواقع الاجتماعي، ولا القابلية الإدراكية والفكرية لشعوبها، متغافلة عن أن مجتمعاً لم يصل إلى مرحلة الوعي الايجابي الذاتي الذي يؤهله، لكي يكون أحد مكونات الركب الحضاري السائر نحو حياة أفضل، يجد نفسه، لا شعورياً، ضمن هذه الجماعات الإرهابية. ولذلك، على الأنظمة والشعوب والمجتمعات إعادة ترتيب أوراقها، وتحديد أولوياتها، وتكريس مبدأ التمييز الإيجابي، والتسلّح بالعدل الاجتماعي والسياسي والثقافي، لمجابهة هذه المخاطر.

EDEBDF13-6F5F-48D6-B0CD-C570F01C7F4C
سارة الطرابلسي

ناشطة ومدونة وإعلامية تونسية